( نقدم في هذه السلسة جملة من ترجمات مختارة © – والتي ستنشر بشكل دوري – من كتاب : The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy، الكتاب المشترك بين البروفيسور John J. Mearsheimer – جون ميرشايمر البروفسور ستيفن والت – Stephen Walt، والكتاب لا يستغنى عنه لمن يريد أنّ يفهم بالتفصيل ماهيّة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة وتكوينه التاريخي وتطوره وأبرز الفاعلين فيه من هيئات ومنظمات وآليات عمله ودور غير اليهود في تكوينه، وغير ذلك كن التفاصيل التي قد لا يدركها من هم خارج الدوائر الثقافيّة والسياسيّة الأمريكيّة، و “ميرشايمر” من أبرز الأكاديميين السياسيين في الولايات المتحدة إذ عمل في مؤسسات كبرى كـ “معهد بروكنغز” و “جامعة هارفرد ” و” جامعة شيكاغو” وكذلك المؤلف الزميل ” ستيفن والت” الذي عمل في جماعات كـ “شيكاغو” و “برنستون” و” معهد كنيدي في جامعة هارفارد”. نبدأ في هذه السلسة المترجمة، بإلقاء الضوء على المفاهيم التأسيسيّة : اللوبي ، وما اللوبي الإسرائيلي ، وأبرز التغيرات الاستراتيجيّة في طبيعة عمل هذا اللوبي ومكوناته. )
ما ” اللوبي الإسرائيلي ” ؟
تتنافس جماعات المصالح interest في الولايات المتحدة، بانتظام لتشكيل تصورات تخدم مصلحتهم الوطنية وإقناع المشرعين والرؤساء بتبني السياسات التي الخاصة بها. وقد أشاد “جيمس ماديسون – James Madison ” بالتفاعل\التنازع المشهود بين تلك الجماعات في مساهمته\أطروحته المكتوبة بعنوان ” الورقة الفيدراليّة رقم 10 Federalist”.
وشكل تأثير جماعات المصالح المختلفة منذ فترة طويلة جوانب عدة من السياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك قرارات الحرب. وإذا ما كانت جماعة مصالح معينة قوية بشكل خاص أو ماهرة سياسياً، فقد تؤثر على السياسة بطرق لا تصب في مصلحة البلاد ككل. فالتعرفة الجمركية التي تحمي صناعة معينة من المنافسة الأجنبية ستفيد شركات محددة ولكن ليس العديد من المستهلكين الذين يتعين عليهم دفع المزيد مقابل سلع تلك الصناعة. فنجاح الرابطة الوطنية للبنادق- The National Rifle Association’s في إحباط تشريعات مراقبة الأسلحة يفيد بلا شك مصنعي وتجار الأسلحة، لكنه يترك بقية المجتمع أكثر عرضة للعنف المرتبط بالأسلحة. عندما يصبح أحد المدافعين السابقين عن معهد البترول الأمريكي – American Petroleum Institute رئيساً لموظفي مجلس البيت الأبيض للجودة البيئية – Council on Environmental Quality ويستخدم هذا المنصب لتخفيف التقارير حول الصلة بين انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والاحترار العالمي (قبل أن يستقيل ليتولى وظيفة في إكسون موبيل)، قد يقلق المرء بشكل مُسبّب من أن صناعة النفط تحمي مصالحها بطرق قد تضر بنا جميعاً.
إن تأثير اللوبي ( بدلاً من ترجمة كلمة lobby إلى جماعات الضغط\التأثير) الإسرائيلية على السياسة الخارجية الأمريكية يستحق التمحيص عينه، تماماً كتأثير مصالح الطاقة على اللوائح البيئية أو دور شركات الأدوية في تشكيل سياسة الأدوية الموصوفة. ونعتقد أن أنشطة المجموعات والأفراد الذين يشكلون اللوبي هي السبب الرئيسي وراء متابعة الولايات المتحدة لسياسات بلا معنى\غاية استراتيجية أو أخلاقية في الشرق الأوسط. ولولا جهود اللوبي، لكانت الحجج الاستراتيجية والأخلاقية التي يتم الاستشهاد بها عادة لتبرير الدعم الأمريكي غير المشروط موضع تساؤل بشكل أكثر إلحاحاً، ولكانت سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مختلفة بشكل كبير عما هي عليه اليوم.
فالقوى المؤيدة لإسرائيل تعتقد أنها تروج لسياسات تخدم المصلحة الوطنية الأمريكية والإسرائيلية. ونحن نختلف معهم في هذا، إذ انّ معظم السياسات التي يدافعون عنها ليست في مصلحة أمريكا أو إسرائيل، وسيكون كلا البلدين في وضع أفضل لو تبنت الولايات المتحدة نهجاً مختلفاً.
تعريف اللوبي
نستخدم ” اللوبي الإسرائيلي ” كمصطلح مختصر ملائم للتحالف الفضفاض من الأفراد والمنظمات التي تعمل بنشاط لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية ضمن نسق مؤيد لإسرائيل. ومع ذلك، فإن اللوبي ليست حركة واحدة موحدة ذات قيادة مركزية، والأفراد والمجموعات التي تشكل هذا التحالف الواسع تختلف أحياناً حول قضايا سياسية محددة، كما أنها ليست نوعاً من المؤامرة أو التآمر، بل على نقيض ذلك، تعمل المنظمات والأفراد الذين يشكلون اللوبي بشكل علني وبنفس الطريقة التي تعمل بها جماعات المصالح الأخرى.
إن استخدام مصطلح “اللوبي الإسرائيلي” هو في حد ذاته مضلل نوعاً ما، حيث أن العديد من الأفراد وبعض المجموعات في هذا التحالف الفضفاض لا تشارك في أنشطة الضغط الرسمية (جهود مباشرة لإقناع المسؤولين المنتخبين).
بل تعمل مختلف أجزاء اللوبي للتأثير على سياسة الولايات المتحدة بطرق متنوعة، تماماً كما تفعل جماعات المصالح الأخرى. يمكن للمرء أن يسميها بشكل أكثر دقة “المجتمع المؤيد لإسرائيل” أو حتى “حركة مساعدة إسرائيل”، لأن نطاق الأنشطة التي تقوم بها المجموعات المختلفة يتجاوز الضغط البسيط. ورغم ذلك، نظراً لأن العديد من المجموعات الرئيسية تمارس الضغط بالفعل، ولأن مصطلح “اللوبي الإسرائيلية” يستخدم في اللغة الشائعة (إلى جانب تسميات مثل “جماعة ضغط المزارعين”، “جماعة ضغط التأمين”، “جماعة ضغط الأسلحة”، أو جماعات الضغط العرقية الأخرى)، فقد اخترنا استخدامه هنا.
ولايمكن تحديد حدود اللوبي الإسرائيلية بدقة،كما هو الحال مع مجموعات المصالح الخاصة الأخرى، وودائماً قد يكون هناك بعض الأفراد أو المنظمات غير واضحة التوجّه borderline التي يصعب تصنيف موقفها. من السهل تحديد المجموعات التي هي بوضوح جزء من اللوبي – مثل المنظمة الصهيونية الأمريكية (ZOA) – وكذلك الأفراد الذين هم أعضاء رئيسون – مثل “مالكولم هوينلين – Malcolm Hoenlein ” نائب الرئيس التنفيذي لـ “مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى- Conference of Presidents of Major American Jewish Organizations” كما أنّ هناك أيضاً العديد من المجموعات التي هي من الواضح أنها ليست جزءاً من اللوبي – مثل ” الرابطة الوطنية للأمريكيين العرب – National Association of Arab-Americans ” – والأفراد الذين ينبغي استبعادهم بوضوح أيضاً – مثل الباحث في جامعة كولومبيا ” رشيد خالدي” .
وسيكون هناك دائماً بعض المجموعات والأفراد الذين يكون موقفهم أكثر غموضاً، مثل الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى، إنّ حدود اللوبي الإسرائيلية غامضة إلى حد ما، وهذا يسلط الضوء على كون اللوبي ليس منظمة مركزية هرمية ذات عضوية محددة، فلا توجد بطاقات عضوية أو طقوس تنصيب. ولكن لديها نواة تتكون من منظمات هدفها المعلن هو تشجيع حكومة الولايات المتحدة والشعب الأمريكي على تقديم المساعدة المادية لإسرائيل ودعم سياسات حكومتها، وكذلك أفراد مؤثرين تعتبر هذه الأهداف أيضاً أولوية قصوى بالنسبة لهم. ومع ذلك، يستمد اللوبي أيضاً الدعم من مجتمع من المجموعات والأفراد الملتزمين تجاه إسرائيل ويريدون أن تواصل الولايات المتحدة دعمها، ولكنهم ليسوا نشطين بنفس القدر أو بشكل متسق مثل المجموعات والأفراد الذين يشكلون النواة.
وهكذا، فإن أحد المدافعين عن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، أو زميل باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP)، أو قيادة منظمات مثل رابطة مكافحة التشهير (ADL) والمسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل (CUFI) هم جزء من النواة، بينما الأفراد الذين يكتبون أحياناً رسائل تدعم إسرائيل إلى صحيفتهم المحلية أو يرسلون شيكات إلى لجنة العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل ينبغي اعتبارهم جزءاً من الشبكة الأوسع من الداعمين.
هذا التعريف لا يعني أن كل أمريكي لديه مواقف إيجابية تجاه إسرائيل هو عضو في اللوبي. ولتقديم توضيح شخصي، مؤلفا هذا الكتاب “مؤيدان لإسرائيل”، بمعنى أننا ندعم حقها في الوجود، ونعجب بإنجازاتها العديدة، ونريد لمواطنيها أن يتمتعوا بحياة آمنة ومزدهرة، ونعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تهبّ لمساعدة إسرائيل إذا كان وجودها في خطر. لكننا بوضوح لسنا جزءاً من اللوبي الإسرائيلي، فليس كل مسؤول أمريكي يدعم إسرائيل هو جزء من اللوبي كذلك. فالسيناتور الذي يصوت باستمرار لصالح المساعدات لإسرائيل ليس بالضرورة جزءاً من اللوبي، لأنه قد يكون يستجيب ببساطة للضغط السياسي من جماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل.
بمعنى آخر، لتكون جزءاً من اللوبي، يجب على المرء أن يعمل بنشاط لتحريك السياسة الخارجية الأمريكية في نهج مؤيد لإسرائيل. وبالنسبة للمنظمة، يجب أن يكون هذا السعي جزءاً مهماً من مهمتها وأن يستهلك نسبة كبيرة من مواردها وجدول أعمالها. أمّا بالنسبة للفرد، هذا يعني تكريس جزء من حياته المهنية أو الشخصية (أو في بعض الحالات، مبالغ كبيرة من المال) للتأثير على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولا ينبغي اعتبار الصحفي أو الأكاديمي الذي يغطي أحياناً قضايا الشرق الأوسط ويبلغ أحياناً عن أحداث تُصور إسرائيل بشكل إيجابي – مثل مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” “ديفيد سانجر” أو أستاذ “جامعة ديوك” “بروس جينتلسون” – جزءاً من اللوبي. لكن الصحفي أو الباحث الذي يقف بشكل متوقع إلى جانب إسرائيل ويكرس قدراً كبيراً من كتاباته للدفاع عن الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل – مثل كاتب عمود واشنطن بوست “تشارلز كراوثامر” أو مؤرخ جامعة برينستون السابق “برنارد لويس” – هم بوضوح جزء من اللوبي.
تكوّن الجزء الأكبر من اللوبي من اليهود الأمريكيين الملتزمين أشد الالتزام بضمان أن عزز السياسة الخارجية الأمريكية ما يعتقدونه أنه مصالح إسرائيل. وفقًا للمؤرخ “ميلفين آي. يوروفسكي” “لا توجد إثنيّة أخرى في التاريخ الأمريكي لديها مشاركة\اسهامات واسعة مع دولة أجنبية كما هو الحال مع اليهود الأمريكيين”.
ويتفق “ستيفن تي. روزنثال – Steven T. Rosenthal ” (مع الرأي السابق )حيث كتب أنه “منذ عام 1967… لم تكن هناك دولة أخرى كان مواطنوها ملتزمين بنجاح دولة أخرى كما كان اليهود الأمريكيون ملتزمين بإسرائيل”.
في عام 1981، وصف عالم السياسة ” روبرت إتش. ترايس” اللوبي المؤيد لإسرائيل بأنه “يتكون من 75 منظمة منفصلة على الأقل – معظمها يهودية – تدعم بنشاط معظم إجراءات ومواقف السياسة للحكومة الإسرائيلية” وتتجاوز أنشطة هذه المجموعات والأفراد مجرد التصويت للمرشحين المؤيدين لإسرائيل لتشمل كتابة رسائل للسياسيين أو المنظمات الإخبارية\الإعلاميّة، وتقديم مساهمات مالية للمرشحين السياسيين المؤيدين لإسرائيل، وتقديم دعم نشط لمنظمة أو أكثر من المنظمات المؤيدة لإسرائيل، الذين وغالباً ما يتواصل قادتها معهم مباشرة لتبليغ أجندتهم. ورغم هذا، فإن اللوبي الإسرائيلي ليس مرادفًا لليهود الأمريكيين، و”اللوبي اليهودي” ليس مصطلحًا مناسبًا لوصف الأفراد والمجموعات المختلفة التي تعمل لتعزيز الدعم الأمريكي لإسرائيل. فمن ناحية، هناك تباين كبير بين اليهود الأمريكيين في مدى قوة التزامهم بإسرائيل، في الواقع، حوالي فإنّ الثلث منهم لا يعتبرون إسرائيل قضية بارزة بشكل خاص، ففي عام 2004، على سبيل المثال، وجدت دراسة استقصائية موثوقة أن 36% من اليهود الأمريكيين كانوا إما “ليسوا مرتبطين كثيرًا” أو “غير مرتبطين على الإطلاق” عاطفيًا بإسرائيل. أضف على ذلك، فإن العديد من اليهود الأمريكيين الذين يهتمون كثيرًا بإسرائيل لا يدعمون السياسات التي تؤيدها المنظمات المهيمنة في اللوبي، تمامًا كما أن العديد من مالكي الأسلحة لا يدعمون كل سياسة تدعو إليها الرابطة الوطنية للبنادق (NRA) وليس كل المتقاعدين يفضلون كل موقف تؤيده جمعية المتقاعدين الأمريكيين (AARP). وعلى سبيل المثال، كان اليهود الأمريكيون أقل حماسًا للذهاب إلى الحرب في العراق من بقيّة مجمل السكان، رغم أن المنظمات الرئيسية في اللوبي دعمت الحرب، وهم أكثر معارضة للحرب اليوم.
أخيرًا، فإنّ بعض الأفراد والمجموعات التي تعمل وتتحدث نيابة عن إسرائيل، مثل المسيحيين الصهاينة – Christian Zionists ، ليسوا يهودًا. لذلك، في حين أن اليهود الأمريكيين هم الدائرة الأساسية للوبي، فمن تحري الدقة الإشارة إلى هذا التحالف غير المتجانس تحت مسمّى ” اللوبي الإسرائيلي” ، فالأجندة السياسية المعينّة هي التي تحدد اللوبي، وليس الهوية الدينية أو العرقية لأولئك الذين يدفعون .
ليس من الصعب فهم التعلق الذي يشعر به العديد من اليهود الأمريكيين تجاه إسرائيل، وكما ذُكر في المقدمة، فإنه يشبه مواقف المجموعات العرقية الأخرى التي تحتفظ بتقارب مع دول أخرى أو شعوب ذات خلفيات مماثلة في بلاد أجنبية. على الرغم من أن العديد من اليهود في الولايات المتحدة كانوا مترددين بشأن الصهيونية خلال السنوات الأولى للحركة، إلا أن الدعم نما بشكل كبير بعد وصول هتلر إلى السلطة في عام 1933 وخاصة بعد أن أصبحت الفظائع التي ارتكبت ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية معروفة على نطاق واسع.
اختار عدد قليل نسبيًا من اليهود مغادرة الولايات المتحدة والانتقال إلى إسرائيل بعد تأسيسها في عام 1948، وهو نمط انتقده رئيس الوزراء “ديفيد بن غوريون” وقادة إسرائيليون آخرون في البداية. ومع ذلك، أصبح الالتزام القوي بإسرائيل عنصرًا مهمًا من عناصر الهوية للعديد من اليهود الأمريكيين. كان إنشاء دولة يهودية في فلسطين التاريخية يبدو معجزة في حد ذاته، خاصة في أعقاب المحرقة النازية. كانت إنجازات إسرائيل في “جعل الصحراء تزهر” مصدرًا واضحًا للفخر، وقدم التماهي الوثيق مع إسرائيل أساسًا جديدًا للمجتمع ، لسكان كانوا يندمجون بسرعة في المجتمع الأمريكي مصبحين أكثر علمانية في الوقت ذاته. كما يلاحظ “روزنثال” :
“إن مساواة إسرائيل باليهودية كانت طريقة مريحة لتجنب اعباء الدِين عبر التركيز على هوية المرء اليهوديّة في دولة علمانية تبعد 8000 ميل عن الوطن (امريكا)… إذ أصبحت المعابد اليهودية، الدعامة الرئيسة الجديدة للحياة اليهودية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب، متمحورة حول إسرائيل. وظهرت طبقة جديدة من المتخصصين اليهود… في الضواحي، سرعان ما اكتشفوا أن إسرائيل كانت الوسيلة الأكثر فعالية لمواجهة اللامبالاة الدينية (بين اليهود) المتزايدة لدوائرهم الانتخابية. ونشأت مؤسسات جديدة ،استجابةً بشكل أساسي للحاجة الهائلة لإسرائيل للدعم المالي والسياسي، … وأصبح جمع التبرعات والضغط يحددان بشكل متزايد علاقة اليهود الأمريكيين بإسرائيل”.
شكل اليهود الأمريكيون تجمّعاً مثيراً للإعجاب من المنظمات المدنية التي تتضمن أجنداتها العمل لصالح إسرائيل، وفي كثير من الحالات من خلال التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية. وتشمل المنظمات الرئيسية “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)” و “الكونجرس اليهودي الأمريكي” و”منظمة الصهيونية الأمريكية (ZOA)” و “منتدى السياسة الإسرائيلية (IPF)” و “اللجنة اليهودية الأمريكية” و “رابطة مكافحة التشهير (ADL)” و “مركز العمل الديني لليهودية الإصلاحية” و “أمريكيون من أجل إسرائيل آمنة” و “أصدقاء أمريكيون لليكود” و”ميركاز-USA” و “هداساه” والعديد من المنظمات الأخرى. وقد ذكر عالم الاجتماع حاييم آي. واكسمان – Chaim I. Waxman في عام 1992 أن “الكتاب السنوي اليهودي الأمريكي – American Jewish Yearbook ” أدرج أكثر من ثمانين منظمة يهودية وطنية “مكرسة تحديدًا للأنشطة الصهيونية والمؤيدة لإسرائيل… و للعديد من المنظمات الأخرى، ظهرت وبرزت أهداف وأنشطة مثل ‘تعزيز رفاهية إسرائيل’ و’دعم دولة إسرائيل’ و ‘تعزيز فهم إسرائيل’ بتكرار مثير للإعجاب”. تجتمع واحد وخمسون من أكبر وأهم المنظمات في مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الرئيسية، التي تشمل مهمتها المحددة من قبلهم بـ”توحيد المجموعات المتنوعة في قوة موحدة لرفاهية إسرائيل” والعمل على “تعزيز وتقوية العلاقة الأمريكية الإسرائيلية الخاصة”. ويشتمل اللوبي أيضًا مراكز أبحاث مثل “معهد الشؤون الأمنية الوطنية اليهودية (JINSA) ” و “منتدى الشرق الأوسط (MEF)” و “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP)” بالإضافة إلى أفراد يعملون في الجامعات ومنظمات البحث الأخرى. هناك أيضًا العشرات من لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل المستعدة لتوجيه الأموال إلى المرشحين السياسيين المؤيدين لإسرائيل أو إلى مرشحين الذين يُعتبر خصومهم إما غير داعمين بشكل المُرضي لإسرائيل أو معادين لها.
وقد رصد “مركز السياسات المسؤولة- Center for Responsive Politics” وهو مجموعة بحثية غير حزبية تتعقب مساهمات الحملات-الماليّة، ما يقرب من ثلاث دزينات من “لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل” (العديد منها “لجان خفية” لا تكشف أسماؤها عن توجه مؤيد لإسرائيل) ويفيد بأن هذه المنظمات ساهمت بحوالي 3 ملايين دولار للمرشحين للكونجرس في انتخابات منتصف المدة عام 2006. ومن بين المنظمات اليهودية المختلفة التي تنطوي السياسة الخارجية كجزء مركزي من أجندتها، تعتبر “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)” الأبرز وضوحاً والأكثر شهرة.
لم يظهر النفوذ الذي تتمتع به الآن مجموعات مثل AIPAC بين عشية وضحاها. فخلال السنوات الأولى للصهيونية، وحتى بعد تأسيس إسرائيل، كان الضغط نيابة عن إسرائيل يميل إلى الحدوث بهدوء وراء الكواليس وكان يعتمد عادة على اتصالات شخصية بين مسؤولين حكوميين مؤثرين، وخاصة الرئيس، وعدد صغير من القادة اليهود، أو المستشارين المؤيدين للصهيونية، أو الأصدقاء اليهود، على سبيل المثال، كان دعم “وودرو ويلسون” لوعد بلفور في عام 1917 يرجع جزئيًا إلى تأثير أصدقائه اليهود قاضي المحكمة العليا “لويس د. برانديس” والحاخام “ستيفن وايز” وبالمثل، تأثر قرار “هاري إس. ترومان” بدعم إنشاء إسرائيل والاعتراف بالدولة الجديدة (وإن لم يكن واضحاً) بتدخلات من الأصدقاء والمستشارين اليهود. ولقد عكس ميل مؤيدي إسرائيل للحفاظ على حضور غير لافت للانظار المخاوف بشأن معاداة السامية المستمرة في الولايات المتحدة، وكذلك الخوف من أن الضغط العلني نيابة عن إسرائيل سيعرض اليهود الأمريكيين لتهمة الولاء المزدوج.
كانت لـ AIPAC نفسها جذور صهيونية صريحة ؛ إذ كان مؤسسها، “إي. إل. “سي” كينين – I. L. “Si” Kenen ” رئيس “المجلس الصهيوني الأمريكي” في عام 1951، وهو مجموعة ضغط أجنبية مسجلة. فأعاد “كينين” تنظيمها كمنظمة ضغط أمريكية باسم – اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة – في عامي 1953-1954، وأعيدت تسمية المنظمة الجديدة AIPAC في عام 1959. لقد اعتمد “كينين” على الاتصالات الشخصية مع المشرعين الرئيسيين بدلاً من الحملات العامة أو التعبئة الجماهيرية، واتبعت AIPAC بشكل عام “قواعد كينين” لتعزيز قضية إسرائيل. فالقاعدة رقم واحد هي : “قف وراء التشريع؛ لا تقف أمامه (أي أثر بصمت ولا تلفت الأنظار)”.
وفقًا لـ “ج. ج. جولدبرج”محرر الصحيفة اليهودية “Forward” فلقد ازداد النفوذ الصهيوني بشكل تصاعدي خلال إدارات “كينيدي” و”جونسون” لأن ثراء ونفوذ اليهود في المجتمع الأمريكي قد ازداد”، كذلك لأن كينيدي وجونسون “اعتمدا على العديد من اليهود بين مستشاريهم المقربين والمانحين والأصدقاء الشخصيين”، كانت AIPAC لا تزال مركزاً صغيراً بموظفين وميزانية متواضعة، وكما يشير “ستيوارت أيزنشتات” : “لم يبرز النشاط السياسي اليهودي المنظم العلني نيابة عن دولة إسرائيل إلى حيز الوجود حتى منتصف الستينيات”.
ووفقًا “لأيزنشتات” ؛ لقد تضّخم حجم وثروة ونفوذ اللوبي بشكل كبير بعد حرب الأيام الستة في يونيو 1967 ، فإن ذلك الصراع “حشد وألهب مشاعر الجمهور اليهودي الأمريكي أعظم من أي حدث آخر منذ حرب استقلال إسرائيل… كان للشعور بالفخر في ‘اليهود الجدد’ الفخورين، الأقوياء، القادرين على الدفاع عن أنفسهم، تأثير لا يفوق أي تقدير على اليهود الأمريكيين”. ولقد ساعدت الحملة الناجحة ضد معاداة السامية، بمساعدة الوعي الواسع بفظائع المحرقة، على إزالة الحواجز التمييزية المستمرة، وفقد اليهود الأمريكيون “الشعور بالخوف الذي أعاق إرادتهم السياسية” في السنوات السابقة. ولأن إسرائيل كانت تصبح محورًا مركزيًا للهوية اليهودية في عالم كان فيه الاندماج (الهوياتي) أكثر قابليّة وانتشاراً، فقد قلت الأسباب الداعيّة لعدم التعبير عن هذا الارتباط في السياسة.
واستمر الاهتمام المتزايد بامن إسرائيل داخل المنظمات اليهودية خلال حرب الاستنزاف (1969-70) وحرب أكتوبر (1973). عززت هذه الصراعات الفخر بالقوة العسكرية لإسرائيل، لكنها أثارت أيضًا المخاوف بشأن أمن إسرائيل، مما عزز بالتالي لتكون إسرائيل بؤرة تركيز عديد من المجموعات اليهوديّة. وقد عبر ” ألبرت شيمين – Albert Chemin ” المدير التنفيذي لـ “المجلس الاستشاري الوطني لعلاقات الجالية اليهودية” (NJCRAC) الذي أعيدت تسميته لاحقًا باسم “المجلس اليهودي للشؤون العامة” عن هذا المنظور في عام 1978 عندما قال إن ” أولويتنا الأولى هي إسرائيل، بالطبع، مما يعكس التطابق الكامل في وجهات النظر للقيادة اليهودية الأمريكية مع اهتمامات صفوف اعضائها” ، و يصف المؤرخ “جاك ويرثايمر” هذا التعليق بأنه “اعتراف مذهل بأن الجهود السياسية لدعم إسرائيل تجاوزت جميع الاهتمامات الأخرى للمنظمات الإجتماعيّة للحاليّة اليهودية في الولايات المتحدة”.
مع تجاوز المساعدات الخارجية الأمريكية لإسرائيل المساهمات الخاصة، ركزت المنظمات المؤيدة لإسرائيل بشكل متزايد على الأنشطة السياسية التي تهدف إلى الحفاظ على أو زيادة الدعم الحكومي الأمريكي. وفقًا لـ “ورتهايمر – Wertheimer”، فقد “تولّى “مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية”… و(أيباك) المسؤولية الجماعية عن الضغط السياسي لصالح إسرائيل “. وقد تأسّستا في خمسينيات القرن العشرين، وكانتا تؤديان دوراً محدوداً قبل عام 1967، إلا أن الحاجة الماسة لإسرائيل إلى دعم سياسي قذف بهاتين المؤسستين إلى واجهة المشهد في السبعينيات والثمانينيات.
وعكست هذه الجهود المتصاعدة إدراكاً عميقاً بأن لدعم إسرائيل كلفة مرتفعة على الولايات المتحدة، وبالتالي وجب تبريره والدفاع عنه في الساحة السياسية. وكما عبّر ” موريس أميتاي – Morris Amitay”، الذي خلف “كينن” مديراً تنفيذياً لأيباك عام 1975: ” فإنّ اسم اللعبة – إن كنت ترغب في مساعدة إسرائيل – هو العمل السياسي “. في ظل “أميتاي” وخليفته ” توم داين -Tom Dine “، تحوّلت “أيباك ” من محاولة صغيرة ميزانيتها متواضعة إلى منظمة شعبية واسعة، يعمل فيها أكثر من 150 موظفاً، وتضخّمت ميزانيتها السنوية (التي تُموَّل حصرياً من تبرعات خاصة) من نحو 300,000 دولار في 1973 إلى ما يُقدَّر اليوم بـ40-60 مليون دولار.
وبدلاً من تجنّب الأضواء، كما كان الحال في عهد “كينن” أصبحت “أيباك” تسعى جاهدةً إلى إبراز قوتها. ووفقاً لأحد العاملين السابقين: ” كانت النظرية : لا أحد يخاف منك ما لم يعرف عنك “. وخلافاً للنمط القديم الذي قام على ضغطٍ مستتر وشخصي يمارسه مستشارون يهود أو غير يهود متعاطفون، لم تعد المنظمات المنضوية تحت ” اللوبي ” لم تعد تُعلِن في أجندتها العامة دعماً إنسانياً لليهود في إسرائيل، بل تطوّر دورها ليشمل صياغة وترويج حجج معقّدة\مركبة تُبرهن على تطابق المصالح والقيم الاستراتيجية والأخلاقية بين أميركا وإسرائيل.
وبفضل من الوفرة المالية وموقعها المتميّز في خريطة الحرب الباردة، وبإثر قواعد اتحادية جديدة لتمويل الحملات،لقد وجدت ” أيباك” قوتها السياسية تتعزز، وهي القواعد التي أطلقت شرارة إنشاء لجان عمل (PACs) مستقلة، و سهَّلت توجيه الأموال نحو المرشَّحين المؤيّدين لإسرائيل. ولم تكن “أيباك” في أوائل الستينيات ذات وزنٍ كبير، لكن بحلول الثمانينيات، كما يُلاحظ “وورن باس”، أصبحت “قوةً عُظمى في واشنطن”.