( نشر هذه النص في مجلة الكرمل بعنوان ” العظمة المتوخاة ” )
جيل دولوز : شهادة، فلسطين 1983
إن القضية الفلسطينية هي، أولاً، مجمل المظالم التي عانى منها هذا الشعب وما زال يعاني. هذه المظالم هي أعمال العنف، ومخالفة المنطق أيضاً، والحجج الباطلة، والضمانات الكاذبة التي تزعم التعويض عن تلك المظالم أو تبريرها. لم تبق لياسر عرفات سوى كلمة واحدة للتحدث عن الوعود التي نكثت، والالتزامات التي انتهكت أثناء مجازر صبرا وشاتيلا: يا للعار، يا للعار.
قيل إنها ليست إبادة جنس، ومع ذلك فهو تاريخ انطوى منذ البداية على أكثر من أورادور واحدة. ذلك أن الإرهاب الصهيوني لم يمارس ضد الإنكليز فقط، بل شمل قرى عربية كان ينبغي أن تختفي وتزول: وكانت الأرغون نشطة جداً في هذا المجال (دير ياسين). من البداية إلى النهاية كان العمل لا يتم كما لو أن على الشعب الفلسطيني أن يكف عن الوجود فحسب، بل كما لو أنه لم يوجد أصلاً.
كان الغزاة من أولئك الذين تكبدوا، هم أنفسهم، أكبر إبادة في التاريخ. و من تلك الإبادة، صنع الصهاينة شراً مطلقاً. لكن عملية تحويل أكبر إبادة في التاريخ إلى شر مطلق هي رؤيا دينية وصوفية، وليست رؤية تاريخية.
إنها لا توقف الشر، بل هي ، على العكس، تنشره، وتسقطه على أبرياء آخرين، وتطالب بتعويض يجعل هؤلاء الآخرين يعانون ويتكبدون جزءاً مما تكبده اليهود (الإبعاد، المحتشدات، زوال الشعب بصفته شعباً). إنهم يريدون التوصل إلى النتائج ذاتها بوسائل “أبرد” من الإبادة.
الولايات المتحدة الأمريكية، و دول أوروبا مدينون بالتعويض لليهود. و لقد دفعوه.
و كان التعويض شعباً أقل ما يمكن أن يقال عنه: لم تكن له صلة بما حدث، شعب تفرد في براءته من كل “هولوكوست “، بل لم يسمع بأي حديث عنه.
هنا تبدأ الفظاعة ويبدأ العنف. فيطلب الصهاينة، وبعدهم دولة إسرائيل، أن يعترف بهم الفلسطينيون، كحق من حقوقهم. لكن دول إسرائيل، بالمقابل، لن تكف عن إنكار حتى وجود شعب فلسطيني، فهم لا يتحدثون عن فلسطينيين بل عن عرب فلسطين، كما لو أنهم وجدوا هناك مصادفة، أو خطأ. وفيما بعد سيتصرفون كما لو كان الفلسطينيون المبعدون قد جاؤوا من الخارج، دون التحدث عن المقاومة الأولى التي قاموا بها وحدهم. و صولاً إلى القول إنهم أحفاد هتلر لعدم اعترافهم بحق إسرائيل.
لكن إسرائيل تخص نفسها بحق إنكار وجودهم الفعلي. هنا يبدأ وهم ليزداد انتشاراً، ويحط بثقله على كاهل جميع المدافعين عن القضية الفلسطينية. هذا الوهم، هذا الرهان الإسرائيلي، يتمثل في اتهام كل من يعارض سياسة الأمر الواقع، والأعمال التي تقوم بها الدولة الصهيونية، بمعاداة السامية. وهذه العملية إنما تنبع من السياسة الإسرائيلية الباردة إزاء الفلسطينيين.
لم تخف إسرائيل هدفها البتة، منذ البداية: إخلاء الأرض الفلسطينية. و أكثر من ذلك، التصرف على أساس أن الأرض الفلسطينية كانت خالية و منذورة للصهاينة منذ البدء. إن الأمر يتعلق باستعمار فعلاً، لكنه ليس استعماراً بالمعنى الأوروبي في القرن التاسع عشر: لا يتم استغلال مواطني البلد، بل ترحيلهم. و الذين يبقون لا يتم تحويلهم إلى أيد عاملة مرتبطة بالأرض، بل إلى أيد عاملة طائرة و مجتثة، كما لو كان مجرد مهاجرين وضعوا في “غيتو”.
و منذ البداية كان شراء الأراضي مشروطاً بإخلائها، أو بقابليتها للإخلاء. إنها عملية إبادة، حيث التصفية الجسدية تبقى خاضعة للإخلاء الجغرافي: و لأن الفلسطينيين عرب بوجه عام يتوجب على المتبقين منهم على قيد الحياة أن يذهبوا للذوبان مع العرب الآخرين. و التصفية الجسدية، سواء أكلف بها مرتزقة أم لا، هي حاضرة تماماً، لكنها ليست إبادة، و ذا ما يقال، لأنها ليست “الهدف النهائي”: فعلاً إنها وسيلة من بين عدة وسائل أخرى. إن تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل لا يأتي من نفوذ اللوبي الصهيوني فقط. لقد أوضح إلياس صنبر، بشكل جيد، كيف أن الولايات المتحدة وجدت في إسرائيل صورة من تاريخها: إبادة الهنود الحمر. و هي إبادة لم تكن جسدية، مباشرة، إلا بشكل جزئي، هناك أيضاً. لقد كان الأمر يتعلق أيضاً بعملية إخلاء، كما لو أن الهنود الحمر لم يوجدوا قط، إلا في محتشدات تجعلهم مهاجرين من الداخل. والفلسطينيون من نواح عدة، هم الهنود الجدد، هنود إسرائيل. ويشير التحليل الماركسي
إلى الحركتين المتكاملتين للرأسمالية: إنها ترسم لنفسها حدوداً باستمرار، فتهيء منظومتها داخل تلك الحدود وتستغلها، ثم تدفع بتلك الحدود إلى أبعد، دائما، فتتجاوزها لتبني نفسها من جديد بشكل أكبر وأحد. دفع الحدود كان عمل الرأسمالية الأمريكية والحلم الأمريكي، الذي تبنته إسرائيل وهو الحلم بـ إسرائيل الكبرى على الأراضي العربية، على ظهور العرب.
كيف تمكن الشعب الفلسطيني من الصمود. كيف تحول من شعب مشتت إلى أمة مسلحة. كيف أعطى نفسه منظمة لا تمثله فقط، بل تجسده، خارج أرضه ومن دون دولة: كان لا بد من شخصية تاريخية عظيمة، قد يقال عنها من وجهة نظر غربية، إنها شخصية تكاد تكون خارجة من شكسبير، فكان عرفات. وليست هذه أول مرة في التاريخ (يمكن للفرنسيين أن يتذكروا فرنسا الحرة، مع فارق كون قاعدتها الشعبية كانت أضيق في البداية). والذي لم يحدث لأول مرة في التاريخ، أيضاً، هو أن جميع الفرص التي يكون فيها حل ما، أو عنصر حل، ممكنين، تسارع إسرائيل عمداً، و بتبصر، إلى القضاء عليها وتفويتها. إنهم يتشبثون بموقفهم الديني ليس من أجل نفي حق الفلسطينيين فقط، بل والواقع الفلسطيني أيضاً. ويغتسلون من إرهابهم الخاص بمعاملة الفلسطينيين كإرهابيين يأتون من الخارج. ولأن الفلسطينيين ليسوا كذلك تحديداً، وإنما هم شعب متميز عن العرب الآخرين كما هو حال الأوربيين، ربما في تميزهم، بعضهم عن بعض، فلن يجدوا من الدول العربية سوى مساعدة هشة، من شأنها أن تتحول إلى عدوان وإبادة، عندما يشكل النموذج الفلسطيني خطراً عليها. لقد اجتاز الفلسطينيون كل هذه الدورات الجهنمية للتاريخ: إفلاس الحلول كلما بدت ممكنة، إرتداد التحالفات عليهم فيدفعون ثمنها، عدم الالتزام بأكثر الوعود والتعهدات الرسمية. ولا شك أن مقاومتهم تغذت من كل ذلك.
ربما كان أحد أسباب مجازر صبرا وشاتيلا يهدف إلى جعل عرفات يفقد اعتباره. فهو لم يوافق على رحيل المقاتلين، الذين ظلت قوتهم سليمة، إلا بشرط ضمان أمن عائلاتهم، من قبل الولايات المتحدة وحتى من قبل إسرائيل. وبعد المجزرة لم تبق كلمة أخرى ما عدا “يا للعار”.
ولو أن النتيجة التي ترتبت عن أزمة م . ت. ف فيما بعد أدت في وقت قريب أو بعيد، إلى الاندماج في دولة عربية، أو في الانخراط في حركة إسلامية متطرفة، لأمكن القول عندئذ إن الشعب الفلسطيني قد زال فعلاً. وفي ظل هذه الشروط لن يكف العالم، والولايات المتحدة، وربما إسرائيل، أيضا، عن التحسر للفرص الضائعة، بما فيها تلك التي ما زالت ممكنة اليوم. ثمة صرخة للفلسطينيين لا تني ترد على الصيغة المتعجرفة لإسرائيل والقائلة “نحن لسنا شعباً كالشعوب الأخرى”، والصرخة الفلسطينية وردت في العدد الأول من “مجلة الدراسات الفلسطينية”: نحن شعب كسائر الشعوب، ولا نريد أن نكون أكثر من ذلك.
لقد ظنت إسرائيل إنها بشن حربها الإرهابية في لبنان، سوف تقضي على م . ت . ف، وتحرم الشعب الفلسطيني من دعمها، بعد حرمانه من أرضه، وربما نجحت في ذلك، إذ لم يعد يوجد في طرابلس المحاصرة سوى الحضور الجسدي لعرفات بين ذويه، وكلهم في عظمة متوحدة. لكن الشعب الفلسطيني لن يفقد هويته دون أن يثير محلها إرهاباً مزدوجاً: إرهاب دولة وإرهاب دين، يؤدي إلى استحالة أية تسوية سلمية مع إسرائيل. وحتى إسرائيل نفسها لن تخرج من حرب لبنان متفككة معنوياً، ومختلة إقتصادياً فقط، بل سوف تجد نفسها أمام الصورة المقلوبة لتعصبها ذاته. ما من حل سياسي ممكن، ما من تسوية ممكنة إلا مع م . ت . ف. مستقلة، لم تتلاش في دولة موجودة، ولم تضع في حركات إسلامية مختلفة. إن أي انتهاء لـ م . ت . ف لن يؤدي إلى انتصار قوى الحرب العمياء التي لا تكترث لبقاء الشعب الفلسطيني.
جيل دولوز
أيلول 1983
ترجمة م . ع . ي