لوي ألتوسير : ما الأيديولوجيا؟

58 عدد المطالعات
5 دقائق من القراءة

ما  الإيديولوجيا؟

” لسنا نريد هنا إرساء تعريف عميق للإيديولوجية. ويكفي أن نعرف بكيفية تقريبية أنها نسق (له منطقه ودقته الخاصتين) من التمثلات (من صور وأساطير وأفكار وتصورات حسب الأحوال) يتمتع، داخل مجتمع ما، بوجود ودور تاريخيين.
ومن غير أن نثير مشكل العلاقات التي توجد بين علم ما وماضيه (الإيديولوجي)، فلنقل إن الإيديولوجية، باعتبارها نسقا من التمثلات، فهي تتميز عن العلم من حيث إن وظيفتها العملية المجتمعية تفوق، من حيث الأهمية ، وظيفتها النظرية (وظيفتها المعرفية).
فما هي طبيعة هذه الوظيفة المجتمعية؟ لنتبين طبيعة تلك الوظيفة، علينا أن نرجع إلى النظرية الماركسية في التاريخ. ف((الذوات)) العاملة في التاريخ، هي مجتمعات بشرية معينة. وإن تلك المجتمعات تتبدى لنا ككليات تتشكل وحدتها بواسطة نموذج نوعي من العلاقات المعقدة، وتستخدم مستويات يمكن أن نوجزها، بعد (انجلز)، في ثلاثة هي الاقتصاد والسياسة والإيديولوجية. ففي كل مجتمع نلاحظ، في أشكال يشتد تباينها في بعض الأحيان، وجود نشاط اقتصادي في الأساس، ووجود تنظيم سياسي وأشكال إيديولوجية (من دين وأخلاق وفلسفة إلخ … ) وعلى هذا النحو تشكل الإيديولوجيا جزءا عضويا في كل وحدة مجتمعية. فكما لو أن المجتمعات البشرية لم يكن في استطاعتها أن تستمر في البقاء دون أن تكون هذه الأشكال النوعية، وهذه الأنساق من التمثلات (ذات المستويات المختلفة) التي هي الإيديولوجية. فالمجتمعات البشرية تفرز الإيديولوجية كما لو كانت هي العنصر والمناخ الضروريين لحياتها التاريخية. وإنه لمفهوم إيديولوجي عن العالم
ذاك الذي استطاع أن يصور المجتمعات من غير إيديولوجيات، والذي قبل الفكرة الطوباوية = عن عالم قد تختفي منه الإيديولوجيا (لا هذا الشكل من أشكالها التاريخية فحسب)دون ي أن تترك أثرا لكي يحل محلها العلم. إن هذه الطوباوية، مثلا، هي التي تعتمد عليها الفكرة ة التي ترى أنه يكن إحلال العلم محل الأخلاق، هاته الأخلاق التي في جوهرها تي إيديولوجية، وأن تصبح الأخلاق بكاملها علمية. أوهي التي تتصور الدين وقد حل محله العلم، والتي ترى أن الفن قد يكن أن يصبح مطابقا للمعرفة أو “للحياة اليومية” إلخ … ( .. ٠).
فليست الإيديولوجية إذن شذوذا، أوشينا زائدا عرضيا في التاريخ، إنها بنية جوهرية أساسية بالنسبة للحياة التاريخية للمجتمعات، وإن وجودها والاعتراف بضرورتها هما وحدهما اللذان يسمحان بالتأثير على الإيديولوجية وجعلها وسيلة واعية فعالة في التاريخ .
يجري القول عادة بأن الإيديولوجية تتمي إلى منطقة الوعي. علينا ألا ننخدع بهذه التسمية التي تظل حاملة لآثار الإشكالية المثالية السابقة على ماركس. ففي حقيقة الأمر إن الإيديولوجية لا يربطها بالوعي إلا رباط واه. هذا مع تسليمنا بأن لفظ (الوعي) ذاته له مدلول واحد بعينه.

إن الإيديولوجية في جوهرها لا واعية حتى وإن تبدت لنا (كما هو الأمر في الفلسفة قبل الماركسية) في شكل واع. صحيح أن الإيديولوجية نسق من التمثلات : ولكن هذه التمثلات، في أغلب الأحيان لاتمت إلى الوعي بصلة. إنها تكون في معظم الأحوال صورا و أحيانا تصورات، ولكنها لا تفرض نفسها على الأغلبية الساحقة من البشر إلا كبنيات قبل كل شيء ودون أن (تقر بوعيهم). إن هاته التمثلات هي عبارة عن موضوعات ثقافية تدرك -وتقبل- وتعانى فتؤثر على البشر وفق عملية يجهلون
مدلولها» … ).
تتعلق الإيديولوجية إذن بعلاقة المعاناة التي تربط الناس بعالمهم. وإن هاته العلاقة التي لا تظهر (واعية) إلا بشرط أن تكون غير واعية، يظهر أنها بنفس الكيفية، لا تظهر بسيطة إلا بشرط أن تكون مركبة، وأنها ليست علاقة بسيطة وإغا علاقة بالعلاقات، إنها علاقة من الدرجة الثانية. فالناس لا يعبرون في الإيديولوجية عن علاقتهم مع ظروف ي عيشهم، بل عن (الكيفية) التي يعيشون بها علاقاتهم مع تلك الظروف. الشيء الذي كي يفترض في ذات الوقت، علاقة حقيقية وعلاقة ومعاناة« و»خيال ووهم«. فحينئذ تكون غ الإيديولوجية هي التعبير عن علاقة الناس ب((عالمهم))، أي بوحدة تلتحم فيها علاقتهم الحقيقية بظروف عيشهم مع علاقتهم الوهمية بتلك الظروف. ففي الإيديولوجية توضع العلاقة الحقيقية داخل العلاقة الوهمية: تلك العلاقة التي تعبر عن (إرادة) أو أمل وحنين أكثر مما تصف واقعا معينا. “

Louis Althusser, pour Marx, F.M. Panis, 1972

شارك الموضوع، أظهر دعمك