” … كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج، في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. لذلك لا يكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه، وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان فحصلوا في المعمورة من الأرض. فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية.
فمنها الكاملة، ومنها غير الكاملة. والكاملة ثلاث: عظمى ووسطى وصغرى. فالعظمى، اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة، والوسطى، اجتماع أمة في جزء من المعمورة، والصغرى، اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة. ومنها غير الكاملة: اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل. وأصغرها المنزلة. والمحلة والقرية هما جميعا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلة للمدينة على أنها جزؤها. والسكة جزء المحلة، والمنزل جزء السكة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جملة أهل المعمورة.
فالخير الأفضل والكمال الأقصى إغا ينا أولا بالمدينة، لا باجتماع الذي هو أنقص منها. ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالاختيار والإرادة، وكذلك الشرور إغا تكون بالإرادة والاختيار، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور، فلذلك كل مدينة يكن أن ينال بها السعادة. فالمدينة التي يقصد بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة. والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هي الأمة الفاضلة. وكذلك المعمورة الفاضلة، إغا تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة. ”
كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة