نشر بعنوان :Trump’s Darwinian America للكاتب : Erik Baker وهذه الترجمة الكاملة ©
حقيقة أمريكا الداروينيّة
إنّ الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع حول تعليل تصرفات دونالد ترامب هو أنّ دوافعه ومبرراته تبقى غير واضحة؛ وهناك عدد لا يحصى من المقترحات المطروحة لإطار فكري يُفترض أنه يوحد ويفسر فوضى ترامب : إنه دمية فلاديمير بوتين، أو تلميذ غير مُعاد تأهيله لفكر بات بوكانان ، او خادم مخلص لمراكز الفكر المحافظة التي ابتكرت مشروع 2025، أو رجل عصابات مكيافيلي يركز بشكل أحادي على إثراء الذات ، ورغم ذلك لا يسعني إلا أن أشك في أن تفسير ترامب نفسه هو الأقرب إلى الحقيقة: “أنا شخص غريزي للغاية” كما قال لمجلة تايم في عام 2017 “لكن غريزتي تثبت أنها صحيحة” لا يحتاج المرء إلى الاتفاق مع الحكم الأخير ليدرك أن وصف ترامب لنفسه يبدو صادقًا.
إنه يقدر الجودة غير العقلانية لقراراته كغاية في حد ذاتها، في الأشهر الأولى من حكمه الثاني، استند ترامب إلى غرائزه أكثر من أي وقت مضى “أعني، لا يمكنك تقريبًا أن تمسك قلمًا وورقة” قال في أبريل، واصفًا منهجه في تحديد الإعفاءات الجمركية: “إنها حقًا غريزة أكثر من أي شيء آخر، في اعتقادي”
أدّى هذا التبجيل للغريزة إلى وصف العديد من المراقبين لترامب بأنه “داروين” اجتماعي، وهذا التفسير لعمل داروين، الذي يحتفي بانتصار الأقوياء وإبادة الضعفاء، هو خيط مشترك يوحد مجموعة القادة التاريخيين الذين أشاد بهم ترامب، والذين يختلفون أيديولوجيًا، من بناة الإمبراطورية الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر إلى (وفقًا لرئيس أركانه السابق جون كيلي) أدولف هتلر.
إذ رأى داروين في غرائز الحيوانات “قانونًا عامًا واحدًا، يؤدي إلى تقدم جميع الكائنات العضوية،” وهو: “تتكاثر، وتتنوع، وتدع الأقوى ليعيش والأضعف ليموت” ترامب، مثل العديد من أسلافه من الدارونيين الاجتماعيين، يرى بالتأكيد الدوافع التي هو مصمم على تعزيزها بالطريقة الداروينيّة ذاتها. ومن بين جميع النظريات المختلفة المقترحة لتحديد أيديولوجية ترامب، ربما يكون للداروينية الاجتماعية القدرة التفسيرية الأكبر،علاوة على ذلك، من المرجح أنها الوحيدة التي أيدها صراحةً-هو أو الكتابات التي صدرت باسمه ؛ “كثيرٌ من مغزى الحياة يدور حول بقاء الأصلح والتكيف، كما أشار داروين” يؤكد كتابه”فكر كبطل” لعام 2009.
منذ صعود ترامب المرة الاولى إلى السلطة، عملت تسمية الدارويني الاجتماعي على وسمه كإنسان غير سوي، شخص فشل في تعلم الدروس التي كان من المفترض أن يعلمنا إياها القرن العشرين. في حملته الانتخابية عام 2016، ألمح ” تيم كين” إلى أن داروينية ترامب الاجتماعية حركت انتقاداته لحلف الناتو ونظام التحالفات الذي بنته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية؛ في أكتوبر الماضي، جادل “جوناثان تشايت” بأن الالتزامات الداروينيّة الاجتماعية التي يشاركها ترامب مع بقية الحزب الجمهوري تميزه ليس فقط عن الديمقراطيين ولكن “عن الأحزاب المحافظة في الديمقراطيات الصناعية الأخرى” ولكن طوال جزء كبير من القرن العشرين، واجه الليبراليون الأمريكيون صعوبة في الاعتراف بوجود دارونيين اجتماعيين في الحاضر.
في كتاب “الداروينيّة الاجتماعية في الفكر الأمريكي”، وهو كتاب نشر عام 1944 وهو الذي أشاع المصطلح، يكتب “ريتشارد هوفستادتر” أن الأيديولوجية، على الأقل “كفلسفة واعية” “اختفت إلى حد كبير” في الولايات المتحدة بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، بفضل دلالاتها\نغمتها التوتونية – Teutonic (الانجلو-ساكسونيّة)غير المريحة، وبالاستدلال على المنوال ذاته، أكد المؤرخ ” كارل ن. ديغلر” في عام 1991 أن الصراع ضد النازية قد أدى أخيرًا إلى ” قتل الداروينيّة الاجتماعية بشكل نهائي، وليس مجرد إخمادها”
إلا أنّ الأفكار التي ماتت حقًا نادرًا ما تعود إلى الحياة بهذه السرعة وبهذه الحيوية، ما نشهده ليس طفرة بل هو أحدث انفجار لأيديولوجية يُفترض أنها فقدت مصداقيتها ولم تنطفئ أبدًا حقًا. حتى بعد الهولوكوست، بقيت الداروينيّة الاجتماعية وبهدوء نقطة للتجمع حيث يمكن للمدافعين عن التسلسل الهرمي للطبقة والعرق والجنس أن يتحدوا. إنّ ما اعتبره مؤرخون مثل “هوفستادتر” و “ديغلر” موتاً لها كان مجرد تراجع تكتيكي وتحول. ولفهم كيف حدث هذا، يجب علينا إعادة النظر فيما كنا نعتقد أننا نعرفه عن العالم الذي بنته أمريكا في أعقاب حربها ضد الفاشية، يجب أن نقارن نظرتنا الرومانسية للقيم الديمقراطية الليبرالية مع وصف ترامب الصريح للمجتمع الأمريكي: “إنه عالم قاسٍ والناس لا يرحمون.”
لقد نشأت الداروينيّة الاجتماعية لأول مرة في لحظة بدا فيها أن فائدة الليبرالية في تطوير وتطور الرأسمالية قد استنفدت، وبينما ساعدت فكرة الحقوق العالمية الطبقات الوسطى في معظم القرن التاسع عشر، فبحلول العقود الأخيرة من القرن، نظرت النخب السياسية والاقتصادية بشكل متزايد للمساواة كحافز للحركات الديمقراطية الراديكالية المشاغبة وعقبة أمام الوحشية التي اعتمد عليها التوسع الإمبريالي في تلك الحقبة. من ناحية أخرى، ركزت الداروينيّة الاجتماعية على الاختلاف الثابت الذي قدّمت تناقضاً آسراً للبعض مع الليبرالية العالمية ومخاطرها الأيديولوجية المصاحبة :إذ اقترحت القوة، بدلاً من ضبط النفس، كعلامة على التميز، إذ جعلت البيولوجيا الأغنياء والبيض والذكور متفوقين، ومكنتهم من حق السيطرة على من هم أدنى منهم.
بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أثار تبني الولايات المتحدة للكفاح ضد الفاشية إمكانية أن يكون نظام الفصل العنصري الخاص بها هو الهدف التالي، تجمعت طليعة من القوميين البيض المتعاطفين مع النازية حول مؤسسة خيرية خاصة تسمى ” صندوق بايونير” والتي تأسست قبل الحرب بوقت قصير. ولقد ساعدت منح الصندوق في ضمان استمراريّة عمل العلماء الذين شاركوا المؤسسين حماسهم لسياسات “التربية الانتقائية” للرايخ الثالث تحت رعاية أمريكية خالصة، ومع اكتساب حركة الحقوق المدنية زخمًا، تصدر علماء الأعراق البارزون المدعومون من صندوق بايونير مثل “آرثر جنسن” والفيزيائي الحائز على جائزة نوبل “ويليام شوكلي” عناوين الصحف بإعلانهم أن أبحاثهم “أثبتت” أن الحدود الوراثيّة للذكاء تضع قيودًا بيولوجية صارمة على مشروع إصلاح التمييز العرقي – racial inequality.
في الوقت نفسه، كانت مجموعة أكثر تواضعًا من العلماء تضع بهدوء الأساس لتجديد الداروينيّة الاجتماعية في الفكر البيولوجي الرائج ، إذ ذهبت جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لعام 1973 إلى ثلاثة علماء من بينهم “كونراد لورنز” عالم الأحياء النمساوي والعضو السابق في الحزب النازي الذي ساعد في تأسيس مجال علم السلوك الحيواني (الإيثولوجيا)، وهو الدراسة العلمية لسلوك الحيوان، والتي اعتقد أنها يجب أن تشمل البشر أيضًا. ورغم من أن لورنز نأى بنفسه في النهاية عن ماضيه، إلا أنه ظل قلقًا بشأن خطر ” التدهور\الإرتكاس- degeneration” الناتج من التدخل الحديث في عملية الانتقاء الطبيعي-وهو موضوع رئيسي في عمله في العصر النازي الذي استمر في التعبير عنه لبقية حياته المهنية – وإن كان بلغة أقل تهديدًا. كان هذا الخوف مشتركًا، بكل ما يحمله من دلالات لأخصائي تحسين النسل “دبليو. دي. هاميلتون” أحد أكثر علماء الأحياء التطورية تأثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، ساعد هاميلتون في تطوير أدوات نظرية جديدة سمحت للعلماء بافتراض أساس وراثي لمجموعة من السلوكيات الاجتماعية المعقدة، ومن بين هذه السلوكيات – في رأي هاميلتون – كان الإبادة الجماعية، والتي كانت استجابة طبيعية وإن كانت مؤسفة أخلاقيًا للنمو السكاني في ” قبيلة ” منافسة.
في السبعينيات، ازداد انتشار النهج البيولوجي التطوري لدراسة السلوك البشري، وكان من أبرز دعاة هذا النهج زميل هاميلتون في أكسفورد، “ريتشارد دوكينز” الذي وصف “هاميلتون” بأنه “أعظم دارويني في حياتي” وعالم الحشرات بجامعة هارفارد ” إي. أو. ويلسون” الذي تذكر أن خياله “أُسر” بـ “لورنز” أثناء دراساته العليا. اقترح كتابا دوكينز الأكثر مبيعًا عام 1976، “الجين الأناني”، وكتاب ويلسون عام 1975 “البيولوجيا الاجتماعية” والذي أطر الحقل المعرفي؛ أن أي سمة تقريبًا من سمات المجتمع البشري يمكن تفسيرها من حيث ميلها إلى نشر الجينات المسؤولة عنها، ولم يكن العرق بعيدًا عن مرمى الجدالات التي تلت ذلك، ولكن ووسط صعود الموجة الثانية من الحركة النسوية وحركة تحرير المثليين، ركز أبطال البيولوجيا الاجتماعية ومجالها اللاحق\التابع؛ علم النفس التطوري، بشكل متزايد على الجدال بأن الاختلافات بين الرجال والنساء كانت، في الواقع، متجذرة في البيولوجيا، وليس فقط في التكييف الاجتماعي.
قدمت التفسيرات السوسيوبيولوجية للسلوك البشري تبريرًا عمليأ لسياسات لجماعات التحرريين-libertarians( الدعاة إلى التحرر من قيود الدولة\الحكومة خصوصاً الاقتصاديّة، وفتح الاقتصاد بدون ضوابط أو قيود) والنيوليبرالين الجدد، فالنخب الثقافيّة أواخر القرن العشرين ممن سعوا – مثل “مارغريت تاتشر” – لإظهار أنه لا يوجد بديل لـ “السوق الحرة” لسياساتهم الاقتصادية. إذ أكد الاقتصادي “غاري بيكر” في رد مبكر على كتاب “ويلسون” “السوسيوبيولوجيا” – الحائز على جائزة نوبل وهو أحد منظّري مدرسة شيكاغو- أن “التفضيلات التي يعتبرها الاقتصاديون مسلمات” مثل “المصلحة الذاتية، ومحاباة الأقربين، والتميز\الجهوي الاجتماعي، والجوانب الأخرى الثابتة” في السلوك البشري، يمكن ” تفسيرها إلى حد كبير من خلال اصطفاء السمات\الصفات التي تتمتع بكفاءة جينية وقيمة البقاء – survival value ” كما شارك الاقتصادي الليبرالي الجديد “غوردون تولوك” إعجابه بكتاب ويلسون “الممتاز” وتناولت محاولة تولوك الخاصة في “النظرية البيواقتصادية” المسمّاة : “اقتصاديات المجتمعات غير البشرية”، كيف يمكن للنمذجة -modeling الاقتصادية أن تساعد في تفسير كيفية إدارة الحيوانات غير البشرية مثل النمل للتنسيق الاجتماعي المعقد دون تخطيط مركزي، فكتب “تولوك”: ” الحشرات والأنواع الاجتماعية الأخرى عادة ما يكون لديها اقتصاد فقط، ولكن لا توجد حكومة” و ” يعتقد البشر أن الحكومة شرط ضروري لعمل الاقتصاد، وبالتالي قد يبدو هذا الاقتراح غريبًا ” كانت هذه هي الفرضية التي سعى النيوليبراليون الجدد والأكثر راديكالية لاستخدام السوسيوبيولوجيا لتمحيصها.
وكما يكتب المؤرخ “كوين سلوبوديان” في كتابه الأخير “أبناء هايك الأوغاد- Hayek’s Bastards“، فإن هذا الإعجاب النيوليبرالي والليبرتاري بالداروينيّة الاجتماعية غالبًا ما امتد إلى أفكار حول الاختلافات البيولوجية الثابتة بين الأغنياء والفقراء، وبين الرجال والنساء، وبين الأعراق. فقد كان الاقتصادي ” فريدريش هايك ” ذاته متشككًا في مدى قدرة علم الوراثة على تفسير السلوك البشري، لكنه رسم تشبيهات صريحة بين التطور البيولوجي وتطور السوق الرأسمالية. لكن العديد من أتباعه كانوا أكثر صراحة بشأن دور البيولوجيا في تحديد النتائج\المخرجات الاقتصادية؛ يركز “سلوبوديان” بشكل خاص على أشخاص مثل “تشارلز موراي” وأعمدة مراكز الفكر اليمينية مثل الأصولي السوقي “موراي روثبارد” في مراجعة حماسيّة لكتاب “المنحنى الجرسي – The Bell Curve” – الذي هو كتاب ” موراي ” المرفوض بشكل واسع، الذي شارك في تأليفه ” ريتشارد هيرنشتاين” إذ يزعم فيه أن معدل الذكاء يحدد النجاح ويختلف حسب العرق-كتب ” روثبارد ” أن استعداد المؤلفين للتصريح بـ ” الحقيقة حول العرق ومعدل الذكاء” زود الليبرتاريين\دعاة التحرريّة بـ “دفاع قوي عن نتائج السوق الحرة” مستندين على دحض فكرة أن عدم المساواة العرقية منشاوها\أصلها تمثّل في الاضطهاد العنصري – discrimination، إذ ونسبة لـ “روثبارد” فقد خدمت “العلوم العرقية” كـ “عملية دفاع عن الملكية الخاصة ضد تنازع المعتدين”
لكن “روثبارد” قرأ الخطاب حول تلك المعطيات بطرقة معكوسة؛ فمن خلال دعم أفكار السوق الحرة، التي تبناها حتى العديد من الليبراليين خلال عصر كلينتون، قدم الناس عن غير قصد غطاءً لأولئك الذين يروجون لمعتقدات أكثر تطرفًا حول عدم المساواة البيولوجية. ومع استحواذ النيوليبراليّة على الحس الفطري العام الأمريكي، فقد جلبت معها التفكير الدارويني الاجتماعي، وأعادت تسمية الأفكار التي كانت تعتبر في السابق فاقدة للمصداقية كعلامات على العقلانية الرصينة والانفتاح. في محاضرة عام 2013، انتقد عالم النفس الاجتماعي و المدعي للوسطيّة “جوناثان هايدت” ميل “الجانبين” إلى إنكار “الحقائق غير المريحة” أوضح هايدت أن اليمين يشمل “منكري التطور” و”منكري التغير المناخي ” بينما يضم اليسار “منكري مفهوم معدل الذكاء” و”منكري علم الوراثة” و”منكري فكرة دقة الطبائع النمطية “- بحيث (أي اليسار) يستحقون هم أنفسهم تسمية “منكري التطور” “هايدت” ليس أول من يؤكد أن الفهم الصحيح لعلم التطور يعني وجود اختلافات جماعية وراثية، بما في ذلك الذكاء، وأنّ هذه الاختلافات الجماعيّة تتوافق مع الصور النمطية الشائعة. رغم،أنّ هذه الفكرة لم تكن عادةً سمة مميزة للاعتدال السياسي. بينما يبدو أنّ “سلوبوديان” محقٌ في تسمية هؤلاء الداروينيين الاجتماعيين من النيوليبرالين “أبناء هايك الأوغاد” و يمكن للمرء أن يفكر فيهم فضلاً على ذلك كذرية نمساوية ( اشارة لانحدارهم من علماء النمسا النازيّة ) أخرى من أوائل القرن العشرين، مترددين وخجولين نسبيّاً للتصريح بنسبهم.
و “دونالد ترامب” بالتأكيد ليس من منكري مذهب الوراثة ؛ إذ صرّح “لدينا الكثير من الجينات السيئة في بلدنا الآن” في مقابلة تلفزيونية في أكتوبر الماضي.رغم انّ ” ترامب ” ربما لم يقرأ “جوناثان هايدت” أو “موراي روثبارد” أو ” تشارلز موراي” أو أي شيء آخر في الواقع، باستثناء “قوة التفكيرالإيجابي” وربما مسودات كتبه التي كتبها كتّاب مستاجرون، إلا انّه اكتسب داروينيته الاجتماعية بالطريقة التي يكتسب بها معظم الناس أي أيديولوجية، أي : من خلال العيش في عالم يجعلها تبدو واضحة.
فبعد الحرب العالمية الثانية، وعدت الولايات المتحدة بإعادة تأسيس النظام العالمي على أسس الليبرالية، أمضى “ترامب” المولود عام 1946، حياته كلها يلاحظ أن هذا النظام يكشف عن نفسه كمسلخ إمبراطوري قديم ولد من جديد: في رماد كوريا، وحقول القتل في إندونيسيا، وغابات فيتنام المحترقة، ومعسكرات التعذيب في الحرب على الإرهاب، وركام غزة الدموي. لقد رأى الولايات المتحدة تفكك دولة الرفاهية الخاصة بها، وتعهد خدماتها الاجتماعية لأعلى المزايدين، وتراكم أكبر عدد من السكان المشردين والسجناء في العالم المتقدم. وانخفض معدل عضوية النقابات في أمريكا بنحو الثلثين في حياته، وشهد هزيمة تعديل (ضد) “التمييز على أساس الجنس – Equal Rights “وتكلس فجوة الثروة بين الأعراق ، ويقف في كل عام متفرّجاً – كما نفعل جميعًا – بينما يموت عشرات الآلاف من الناس لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف الرعاية الصحية المنقذة للحياة.
بينما كان هذا التاريخ يتكشف، تخيل العديد من الأمريكيين أنهم يشاهدون سرديّة تقدم آسرة فالميزان الأخلاقي للكون يميل نحو العدالة، فقد هزمت الولايات المتحدة الفاشية وتصالحت أخيرًا مع إرثها الخاص من الفصل العنصري؛ وتفوقت على الاتحاد السوفيتي وسخّرت قوة السوق لعلاج الأمراض وربط العالم.
لكن الآن يمكننا أن نراجع الماضي لنرى الكينونة المتقّيحة\المعدية للداروينية الاجتماعية تتربص بنا طوال حقبة ما بعد الحرب بأكملها، مثل “فورست غامب” الوحشي. فتعلق الولايات المتحدة الدائم بالإمبراطورية (كعقيدة ومبدأ سياسي) والهيمنة العرقية ضَمِن بقاء أفكار الداروينيّة الاجتماعية، تمامًا كما منح التوسع الإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر تلك الأيديولوجية صعودها الأول. وساعدت هذه الأفكار، التي أعيد تغليفها وتلميعها من قبل علماء النفس الشعبويين والاقتصاديين الليبرتاريين، في النهاية على تكريس عدم المساواة كأساس للنظام النيوليبرالي وفي إنشاء اقتصاد سياسي قائم على مبدأ البقاء للأقوى dog-eat-dog، مما عزز جاذبية الداروينيّة الاجتماعية كتفسير لكيفية عمل المجتمع.
أمّا بالنسبة لـ “ترامب” وبحدسه المنحرف الذي وهبه الله إياه، فقد كان قادرًا على إدراك قسوة ووحشية أمريكا التي نشأ فيها في وقت أبكر من العديد من أقرانه، لقد استنتج في سن مبكرة أن العقل والمبدأ وهمين خدّاعين ، وأن حقيقة الواقع هي القوة والهيمنة والغريزة. و لم يعد الىن في هذا الفكر\التفكير وحيداً، فسيظل من المستحيل استئصال الداروينيّة الاجتماعية طالما أن الإمبراطورية الأمريكية ترفض التخلي عن العنف والقسوة والاستغلال التي تمنح لواقعها المختلق معقوليّة ومصداقية.
يبقى أنّ السبب الرئيس الذي يجعل الأمريكيين يستمعون باستمرار إلى دعاة مضللين – propagandists بيخبرونهم أن بعض الناس أفضل بطبيعتهم من غيرهم هو أنهم يعيشون في مجتمع يقدم لهم نفس الرسالة من خلال تنظيمه وعمله اليومي.
” أنا شخص يعرف كيف تعمل الحياة ” علق ترامب في عام 2017، موضحًا سبب ثقته في غرائزه، وهذا هو جوهر القدرية في جميع تجليات\نسخ الداروينيّة الاجتماعية : كل ما تراه حولك – كل اللاعقلانية، كل التسلسل الهرمي، كل الألم – هو سنة العالم\الحياة وحسب. والطريقة الوحيدة التي يمكننا بها دحض هذا الادعاء هي إنشاء عالم يعمل بشكل مختلف.