قراءة في إرث فرانز فانون الباقي

وبينما كان المستعمِرون الغربيون ينهون احتلالهم الطويل لآسيا وأفريقيا، أصبح فانون مهووساً بـ" لعنة الاستقلال " أي : احتمال أن تصبح الدولة-القومية في الجنوب العالمي، رغم حتميتها، " قشرةً فارغة "، وعاءً لعداواتٍ عرقيةٍ وقبلية، ولسطوةٍ قومية متطرفة، وشوفينية، وعنصرية. وقد رأى كتّاب الستينيات المتأثرون بـ "معذبو الأرض " في الكتاب لا الحثّ على قتل البيض، بل تشخيصاً مرعباً لحالة ما بعد الاستعمار: كيف سيسعى الغرب إلى الإبقاء على النظام الدولي الظالم الذي جعله غنياً وقوياً، وكيف ستفشل الطبقات الحاكمة الجديدة في دول ما بعد الاستعمار في ابتكار نظامٍ قابلٍ للحياة. ويُعدّ أحد مؤشرات فراسة فانون - ووتيرة التقدم شديدة البطء حد الجمود - أن  " معذبو الأرض " في عامه الستين، ما يزال دليلاً رئيساً لصلابة التفوّق الأبيض في الغرب، وللفشل الأخلاقي والفكري لـ" الأمم الأكثر سُمرة ".

45 عدد المطالعات
13 دقائق من القراءة
قراءة في إرث فرانز فانون الباقي - اطراس
قراءة في إرث فرانز فانون الباقي - اطراس

( نشر هذه النص في The new yorker بعنوان ” Frantz Fanon’s Enduring Legacy ”  للكاتب ” Pankaj Mishra ” وننشر ترجمة منه © ) 

قراءة في إرث فرانز فانون الباقي

إنّ ” قتل أوروبيٍّ هو قتل عصفورَين بحجرٍ واحد ” هذا ما كتبه “جان-بول سارتر” عام 1961، بعد سبع سنواتٍ من قمع فرنسا الوحشي لحركة الاستقلال الجزائرية، فهذا القتل يُزيل ” في ضربةٍ واحدةٍ المضطهِد والمضطهَد، ليترك رجلاً ميتاً ورجلاً حرّاً ” وقد أراد سارتر، الذي كرِهَه الفرنسيون بسبب تضامنه مع مناهِضي الاستعمار الجزائريين، أن يستفزّ الناس ليروا ” تَعرّي إنسانيتنا ” فكتب  : ” أنتم يا من تدّعون الليبرالية والإنسانية، وتُغالون بحبّكم للثقافة أي مغالاةٍ، تتظاهرون بنسيان أنّ لكم مستعمرات تُرتكب فيها المذابح باسمكم” لقد دوّن سارتر هذه العبارات الملتهبة في تقديمه لكتاب  “معذبو الأرض “، وهو بيانٌ مُناهضٌ للاستعمار ألّفه الفيلسوف والطبيب النفسي الفرنسي الغرب-أفريقي ” فرانز فانون ” . (…)

لقد انتقدت حنّة أرندت طويلاً مقدمة سارتر في مقالتها (1970) ” عن العنف – On Violence” ، لكنها أغفلت غالباً نص ” فانون ” ذاته، بما فيه صفحاته الكثيرة عن اضمحلال الحركات المناهضة للاستعمار، وسجلاته اعن مرضاه النفسيين في الجزائر. وفي عام 1966، زعم كاتبٌ في صفحات هذه الدورية ( يشير الكاتب إلى الـ the new yorker التي نشر فيها هذا المقال الذي نترجمه) أن ” حجج فانون الداعية للعنف تنتشر بين الشباب الزنوج في الأحياء الفقيرة الأميركية “.  وأبدى مراسل لـ ” التايمز ” قلقه من تأثيرها على ” القادة  الراديكاليين من الزنوج الشباب ” . وفعلاً، وصف ” ستُوكلي كارمايكل ” فانون بأنه مرشدٌ له، واعتبر مؤسسو حزب الفهود السود  ” The Wretched of the Earth ” قراءةً ضرورية\لازمة. (…)

بينما كانت فرنسا تجعل من المذبحة والتعذيب في مستعمرتها الجزائرية مسألة طبيعيّة وعاديّة عام 1954، كان فرانز فانون يعمل طبيباً نفسياً في مستشفى بالجزائر العاصمة. وإذ واجه في عمله اليومي كلّاً من جلادي الشرطة الفرنسية وضحاياهم الجزائريين، أيقن أن المعالجة النفسية لا يمكن أن تُجدي ما لم يُزل الاستعمار – ذلك ” الشرّ المطلق “. فانضم إلى الثوّار الجزائريين الذين لم يكن يجمعه بهم لا اللسان ولا الدين، وفيما كان يتنقّل بين بلدان أفريقية شتّى، ألّف سلسلة من المؤلَّفات عن ضرورة الانتفاض والثورة ووسائلها ومداها، انتفاضة وثورة عبر ما أطلق عليها “دبليو إي بي دوبوا – W. E. B. Du Bois” عام 1915 اسم ” الأمم الأكثر سُمرة – darker nations“.

كانت الفرضية الجوهرية لفانون – أن الاستعمار آلةُ ” عنفٍ عاري” لا ” يستسلم إلا أمام عنفٍ أكبر ” – قد أضحت مسلمةً في أرجاء آسيا وأفريقيا كلّما اندلع تمرد مسلّح ضدّ المستعمِرين الغربيين. ففي غينيا عام 1959، بعد أن قتلت الشرطة البرتغالية عُمّال مرفأ مضربين، قرر الشاعر والناشط ” أميلكار كابرال ” التخلي عن التفاوض الدبلوماسي وتبني حرب العصابات. وبعد عامٍ واحدٍ فحسب، قاد ” نيلسون مانديلا” – وهو تلميذ ” غاندي ” – المؤتمر الوطني الأفريقي إلى الكفاح المسلّح رداً على مجزرةٍ ارتُكبت بحقّ سود جنوب أفريقيا في ” شاربفيل”.(…) أمّا فانون فقد قدّم العنف المضاد كعلاجٍ للسكان الأصليين الذين حُرموا إنسانيتهم: ” بينما تذبح أنت ورفاقك كالكلاب، لا حلّ سوى استخدام كل وسيلةٍ متاحة لإعادة تأكيد وزنك\وجودك – weight كإنسان “

كانت البرجوازية الغربية “عنصريةً في الجوهر” في رؤية فانون، وأن إيديولوجيتها البرجوازية عن المساواة والكرامة ما هي إلا غطاءٌ لجشعٍ رأسمالي-إمبريالي. بهذا كان يسبق النقد المعاصر – الذي يُستهجن أحياناً ويُنعت كـ” صحوة- woke ” – القائل بأن الأسس المادية والإيديولوجية للغرب تستند إلى التفوّق الأبيض. فقد وجّه فانون إلى الإمبرياليين الأوروبيين تهمة أنهم ” تصرّفوا كمجرمي حرب حقيقيين في العالم النامي ” على مدى قرونٍ، مستخدمين ” الترحيل، والمذابح، والعمل القسري، والعبودية ” لتراكم الثروة. ومن بين ” أبشع” جرائمهم تمزيق هوية الرجل الأسود، وتدمير ثقافته ومجتمعه، وتسميم حياته الداخلية بإحساسٍ دائمٍ بالدونية. وكتب فانون: ” الفكر الأوروبي يتسم بحوارٍ دائمٍ مع ذاته، بنرجسيةٍ تزداد بغضاً من يومٍ إلى آخر”.

في الوقت ذاته، كان فانون يحثّ المستعمَرين على ” الكفّ عن لوم ” أسيادهم البيض، وعلى أن يفعلوا ما فشل هؤلاء الأخيرون في القيام به: الشروع في ” تاريخٍ جديدٍ للإنسان” يُعزّز ” قيماً عالمية “. فالقومية المناهضة للاستعمار، في رأيه، لا تعدو أن تكون الخطوة الأولى باتجاه إنسانيةٍ راديكاليةٍ جديدة ” من أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية جمعاء”. 

وقد تخلّى فعلاً عن أي ادعاء بالانتماء إلى هويةٍ أو ثقافةٍ محدَّدةٍ عرقياً؛ فـ” الخطأ الأبيض الكبير ” المتجلّي في الكبرياء العرقي، كما كتب، لا ينبغي أن يُستبدل بـ” السراب الأسود الكبير”. يقول في كتابه الأول ” بشرة سوداء وأقنعة بيضاء ” (1952): ” لا أحتاج بأيّ حالٍ إلى أن أكرّس نفسي لإعادة إحياء حضارةٍ سوداءٍ أُجحِفت بها “.  “لن أصنع من نفسي رجلاً من أيّ ماضٍ “. كما أنه لم يرَ جدوى في محاولة إثارة الشعور بالذنب لدى الآخرين من خلال تعرّيهم لوحشية العبودية والإمبريالية. ” هل سأطلب من رجال اليوم البيض أن يُجيبوا عن تجّار العبيد في القرن السابع عشر؟ ” يسأل. وفي  ” معذبو الأرض” يحذّر المُحرومين من تبنّي ” سيكولوجيّة تهيمن عليها الحساسية المفرطة، والانفعاليّة والتأثر”.

وبينما كان المستعمِرون الغربيون ينهون احتلالهم الطويل لآسيا وأفريقيا، أضحى فانون مهووساً بـ” لعنة الاستقلال ” أي : احتمال أن تصبح الدولة-القومية في الجنوب العالمي، رغم حتميتها، ” قشرةً فارغة “، وعاءً لعداواتٍ عرقيةٍ وقبلية، ولسطوةٍ قوميّةٍ متطرفة، وشوفينية، وعنصرية. وقد رأى كتّاب الستينيات المتأثرون بـ “معذبو الأرض ” (…) في الكتاب لا الحثّ على قتل البيض، بل تشخيصاً مرعباً لحالة ما بعد الاستعمار: كيف سيسعى الغرب إلى الإبقاء على النظام الدولي الظالم الذي جعله غنياً وقوياً، وكيف ستفشل الطبقات الحاكمة الجديدة في دول ما بعد الاستعمار في ابتكار نظامٍ قابلٍ للحياة. ويُعدّ أحد مؤشرات فراسة فانون – ووتيرة التقدم شديدة البطء حد الجمود – أن  ” معذبو الأرض ” في عامه الستين، ما يزال دليلاً رئيساً لصلابة التفوّق الأبيض في الغرب، وللفشل الأخلاقي والفكري لـ” الأمم الأكثر سُمرة “.

إن تلك الشكوك لفانون حول نخب الجنوب العالمي كانت نابعةً من تجربته الشخصية المُرّة كرجلٍ أسود متغرب- Westernized، نشأ غير مدركٍ لسواده – Blackness. وُلد في عائلةٍ متوسطة الحال في مارتينيك عام 1925، وكان مواطناً فخوراً للجمهورية الفرنسية. شبّ على قراءة مونتسكيو وفولتير، وشارك، مثل كثيرين من الرجال السود في المستعمرات الفرنسية، في صفوف قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. أُصيب في إلزاس، ونال وسام ” صليب الحرب – Croix de Guerre

لكنه لم يكتشف أنه في نظر البيض لا يعدو أن يكون ” زنجياً قذراً ” إلا في فرنسا ما بعد الحرب، حيث ذهب عام 1946 لدراسة الطب النفسي. هناك أدرك أنه “بدائي” من النوع الذي كان يظن أنه يعيش فقط في أفريقيا. وفي ” بشرة سوداء وأقنعة بيضاء ” يروي صدمةً – trauma تكوينيّة متشاركة وشائعة بين قادة ومفكّري حركات التحرّر. ففي حالته، كانت الصدمة، فتاة صغيرة في ليون تصيح: “ماما، انظري، زنجي! أنا خائفة! “. 

وهذا ” التحديد الجازم من الخارج ” كما وصفه، أيقظه من أي وهمٍ بالمساواة أو الحرية أو الأخوّة.  كتب : ” أردت ببساطة أن أكون رجلاً بين رجال”،  لكن ” النظرة البيضاء، هي النظرة الوحيدة الصالحة ” ولقد” جمدته”، وأجبرته على الإدراك المُذلّ لجسده الأسود، وعلى الافتراضات البيضاء المُحقِّرة عن تاريخه، المسبق التحديدات بـ” أكل لحوم البشر، والتخلف، والتمائم، والوصمات العنصريّة، وتجّار العبيد”.

رغم أن فانون كان مدركاً للوقائع السياسية والاقتصادية التي تُحوِّل الرجل الأسود إلى “موضوع مهشم\مقموع – crushing objecthood “، فإن تكوينه\تدريبه النفسي جعله حساساً للقوة النفسية المؤثرة التي تمتلكها الصور التي فرضها المستعبدون على المستعبدين. 

كان يعلم أنّ الرجال السود الذين يستبطنون هذه الصور لن يستطيعوا الفكاك من ذواتهم المستعمَرة في عالمٍ صنعه البيضُ وللبيض. لم يكتفِ الرجل الأبيض بغزو أراضٍ شاسعة، وإعادة هيكلة المجتمعات استئصالاً، واستغلال السكان استغلالاً مفرطاً؛ بل ادعى أيضاً أنه يمثل حضارة إنسانية مكرسة للحرية الفردية، ومزوّدة بأدوات متفوّقة من علم وعقل واقتصاد الأفراد. في رواية ” منعطف النهر ” لـ “في. إس. نايبول” يعلّق الراوي الأفريقي  : ” كان الأوروبيون يريدون الذهب والعبيد، مثل أي أحدٍ. إلا أنّهم في الوقت ذاته أرادوا تماثيل تُنصب لهم كأشخاصٍ قدّموا خيراتٍ للعبيد”. فـ ” حصلوا، بلا شك، على العبيد والتماثيل معاً “.

كتب فانون كيف أنّ الرجل الأسود، المذعور أمام المزيج غير المسبوق من الجشع وادعاء التقوى والفعالية العسكرية للمستعمِرين، يميل إلى استبطان الحكم الموهن لعزيمته الذي يصدر عليه من النظرة البيضاء – white gaze.  فيقول: ” أبدأ بالمعاناة لأنني لست رجلاً أبيض. ولذا سأحاول ببساطة أن أجعل من نفسي أبيض”. غير أنّ المحاكاة\المماهاة قد تكون أشدّ فتكاً من الداء، إذ تعزّز التسلسل العنصري القائم، فتُدمّر تقدير الرجل الأسود لذاته أكثر فأكثر. ومستوحياً من سارتر – الذي حاجج بانّ التحديقة -\النظرة – gaze المعادية للسامية هي من خلقت اليهودي – خلُص فانون إلى أن السواد هويةٌ مُصطنعةٌ مفروضة أيضاً. فكتب في الصفحات الختامية لـ ” بشرة سوداء وأقنعة بيضاء ” ” الرجل الأسود ليس بأسود”  “ولا الرجل الأبيض بأبيض كذلك”.

ويعزز هذا الحجاج البرامج السياسية التي يقترحها فانون في  ” معذبو الأرض “، إذ يجادل بأن الاستعمار، بكونه “نفياً منهجياً للآخر”، “يجبر المستعمَر على أن يسأل باستمرار: من أنا في الواقع؟ ”  (…) ولم يكن فانون يبدو مدركاً أنّه يتقاسم إذلال العنصرية ومهامه التي اختطها لنفسه مع عددٍ كبير من قادة ومفكّري التحرّر. غاندي نفسه، في النهاية، كان يوماً موالياً للإمبراطورية البريطانية بنفس درجة ولاء فانون للجمهورية الفرنسية، وفيما كان يعمل محامياً في جنوب أفريقيا أواخر القرن التاسع عشر، تعرّض بدوره للإهانة العنصرية التي زرعت فيه نزعة دائمة لعدم الثقة بسياسات الهوية البيضاء. كذلك، فإن رؤية غاندي للتحرّر السياسي استندت إلى ضرورة مداواة الجراح التي خلفها استعلاء التفوّق الأبيض. فمفهومه لللاعنف صاغ طريقة تفكيرٍ وشعورٍ جديدة، لا يُعرَّف فيها الخير الإنساني بالضرورة عبر ابناء الغرب. (…)

لكنّ التجربة الأوسع لفانون في عالم الاستعمار خلال خمسينيات القرن العشرين هي التي نقّت وعيه السياسي. ففي عام 1954، بعد عامٍ من انتقاله إلى الجزائر ليتولى إقامةً في الطب النفسي، شهد اندلاع الثورة الجزائرية. وخلال سنتين، أدّت معارضته لحملة القمع الاستعمارية إلى طرده من البلاد. فانضم إلى حركة التحرير، جبهة التحرير الوطني، ومن قاعدته الجديدة في تونس، جاب أفريقيا – غانا، إثيوبيا، مالي، غينيا، الكونغو – ممثلاً لجبهة التحرير الوطني وحكومتها المؤقتة في المنفى. (…) 

ومع ذلك، فإن تخوّفات فانون من التحرّر، وتأملاته في الروابط بين التغيّر النفسي والاجتماعي-الاقتصادي، لم تبدُ قط أكثر نبوئيّة ونفعاً من الحاضر ،ففي المناخ العنصري المشحون اليوم. (…) والمطالب المتزايدة لغير البيض بكرامتهم، إلى جانب صعود الصين، قد زعزع الصورة الذاتية الغربية التي بُنيت خلال عقودٍ كان فيها الرجال البيض وحدهم يبدون صنّاع العالم الحديث. وقد أدّى هذا الاضمحلال لسلطة عصر الإمبراطورية إلى تضخّم القلق الوجودي، الذي يتجلّى في استغلالٍ مُفرَط لشعارات الحروب الثقافية في السياسة والإعلام. (…) وهكذا تصطدم محاولات محاسبة إرث العبودية والإمبريالية المُهمل طويلاً بطوائف تُمجّد تشرشل والكونفدرالية، (…) 

ويبدو التحرّر بعيداً عن نهايته المنتصرة، بل هو أقرب إلى الانتقال الغامض المفتوح النهاية الذي رسمه فانون. وبعد ستين عاماً على صدوره، يقرأ  “معذبو الأرض ” اليوم، بشكل متزايد، كاعتراف رجلٍ أسود مُحتضَر باستحالةٍ حقيقية : ألا وهي ؛ تجاوز العالم الذي صنعه الرجال البيض.

المصدرThe new yorker
شارك الموضوع، أظهر دعمك