(توطئة :
أجرى الأكاديمي والكاتب والمؤخ البريطاني طارق علي هذه الحوار مع السياسي الفرنسي جان- لوك ميلنشون زعيم حركة فرنسا غير- الخاضعة \ La France insoumise، ونشرالحوار في The New Lift Review تناول الحوار أحداث الشرق الأوسط : غزّة والحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة ومشاريع الهيمنة والتقسيم في المنطقة، وعلاقة تلك الظواهر بالنظام العالمي والولايات المتحدة وحربها غير المعلنة مع الصين، ودور النيوليبراليّة في تقويض الاقنصاديات الوطنيّة وضرورة بزوغ نظام عالمي جديد أقل عدوانيّة ونهماً لاستدراك سلبيات النظام الحالي وكلفته المرتفعة لى حياة الناس وتدميره لمناخ الكوكب، تمت ترجمة © الحوار باستثناء بعض الفقرات الأخيرة منه)
طارق علي: لنبدأ بغزة، نحن في ما نأمل أنه المرحلة الأخيرة من هذه الحرب الإسرائيلية. عدد الضحايا سيبلغ مئات الآلاف، ربما يقترب من نصف مليون. ولم تحاول أي دولة غربية وقفها بشكل جدي. الشهر الماضي، أمر ترامب الإسرائيليين بالتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار مع إيران، وعندما انتهكه الإسرائيليون غضب، لنستخدم كلماته الخالدة: “هم لا يعرفون ما الذي يفعلونه بحق الجحيم” لكن هذا يقودني إلى سؤال: هل تعتقد أن الأميركيين يعرفون ما الذي يفعلونه بحق الجحيم؟
جان-لوك ميلونشون: علينا أن نحاول فهم منطق هذه الدول الغربية. ليس الأمر أن ترامب مجنون أو أن الأوروبيين جبناء؛ ربما هم كذلك، لكن ما يفعلونه مبني على خطة طويلة الأمد، فشلت في الماضي لكنها الآن في طور التحقق ، وتتمحور هذه الخطة حول هدفين: أولًا، إعادة تنظيم الشرق الأوسط بالكامل لضمان وصول النفط إلى دول الشمال العالمي؛ وثانيًا، تهيئة الظروف لحرب مع الصين.
امّا الهدف الأول يعود إلى حرب إيران والعراق، عندما استخدمت الولايات المتحدة نظام صدام حسين كأداة لاحتواء الثورة الإيرانية. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، شنت حرب الخليج وأعلن بوش الأب عن “نظام عالمي جديد، لقد رأيت منذ البداية أن هذا كان محاولة لفرض السيطرة على خطوط النفط والغاز، واستمراريّة استقلالية الولايات المتحدة في شأن الطاقة، من خلال الحفاظ على أسعار مرتفعة لتكون مربحة لاستخراج النفط الصخري.
عندما نفهم هذا كطموح الإمبراطورية الرئيسي، يمكننا تفسير أحداث أخرى: ماذا فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان بعد غزوها عام 2001؟ إذ منعت بناء خط أنابيب سيمر عبر إيران، وحرب داعش ضد سوريا كانت، إلى حد كبير، صراعًا على مسار خط أنابيب.
ولعل هذا هو التفسير المتسق: إذ تبقى الإمبراطورية إمبراطورية فقط إذا سيطرت على موارد معينة، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم، لقد قررت الولايات المتحدة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، باستخدام إسرائيل كأداة وحليف، تعلم أنها يجب أن تكافئ إسرائيل على هذا العمل، وهذا يتمثل في دعم مشروع “إسرائيل الكبرى”، حيث يجب أن يختفي الفلسطينيون في غزة وغيرها. لو أرادت أوروبا والولايات المتحدة وقف هذه الحرب، لكانت اقتصرت على ثلاث أو أربع أيام من الرد الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر ، لكنها استمرت أكثر من عشرين شهرًا. ولا ينبغي لأحد أن يقول إن الأميركيين لا يعرفون ما يفعلونه-كما يزعم البعض- ما يحدث في المنطقة مقصود ومخطط له، ومنسق بين الولايات المتحدة ونتنياهو.
طارق علي: ذكرت أن الجزء الثاني من الخطة الأميركية هو الصراع مع الصين. كثير من الليبراليين واليساريين-الليبراليين بدأوا ينفرون من أحداث الشرق الأوسط ويقولون إن هدفنا الحقيقي يجب أن يكون الصين ، هم لا يدركون أن الهدف الحقيقي هو الصين، لأن الولايات المتحدة، إن سيطرت على نفط المنطقة – كما سيحدث إذا سقطت إيران – ستتحكم في تدفق هذه السلعة الأساسية، ويمكنها إجبار بكين على التوسل للحصول عليها، مما يساعد في كبحها.
إذن، استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد تبدو مجنونة – وهي كذلك على عدة مستويات – لكن هناك منطق عميق وراءها: إذ أنه من الأفضل محاربة الصين بهذه الطريقة بدلاً من الدخول في حرب مباشرة معها. وقد بدأ هذا بالفعل في خلق مشاكل ضخمة في الشرق ، لاحظتُ أن قادة اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين تضمان قواعد عسكرية أميركية كبيرة، لم يحضروا قمة الناتو في يونيو – وهو أمر لم يحدث من قبل.
جان-لوك ميلونشون: الصراع بين الولايات المتحدة والصين يدور حول التجارة وشبكات الموارد، لقد فاز الصينيون حقيقةً – من بعض المناحي- إذ ينتجون كل ما يستهلكه العالم، وليس لهم مصلحة في خوض حرب لأنهم راضون عن نفوذهم العالمي، وهو يمثل قوة وضعفًا في آنٍ واحد، فعندما يذهب 90% من النفط الإيراني إلى الصين – على سبيل المثال – فإن إغلاق مضيق هرمز سيقطع سلاسل الإمداد الحيوية ويوقف جزءًا كبيرًا من الإنتاج الصيني، فالصين عرضة للإنهاك والاضعاف في هذا الجبهة من المواجهة.
وأنت محق في القول إن بعض الغربيين يفضلون الحرب الباردة على الحرب الساخنة\الحقيقيّة، الحصار والاحتواء بدلاً من الصراع المباشر. لكن هذه هي مجرد تفاصيل، ومن السهل الانتقال من واحدة إلى أخرى. لقد قال أحد كبار المستشارين الاقتصاديين لبايدن إنه لا يوجد “حل تجاري” لمشكلة المنافسة مع الصين، مما يعني أن الحل الوحيد هو العسكري.
النقطة المتعلقة باليابان وكوريا مهمة أيضًا، وليس فقط هما، بل العديد من القوى الأخرى في المنطقة تعزز علاقاتها مع الصين. إذ كان من المفترض أن تكون فيتنام في المعسكر الأميركي، لكنها وقعت اتفاقيات مع الصينيين، كذلك الهند، رغم التوترات بين البلدين. وخلفية هذه المسألة، أنّ الرأسمالية في معظم آسيا لا تزال محددة بقوى ديناميكية للتجارة والإنتاج، بينما افترضت في الولايات المتحدة طابعًا عدوانيًا وتبعيًا، أي أن واشنطن تحاول الآن استخدام قوتها لجعل باقي العالم يدفع الجزية، كما كان واضحًا من اجتماع الناتو الذي ذكرته، حيث قرر أن تنفق كل دولة 5% من ناتجها المحلي على الدفاع، فهذه الأموال لن تُستخدم لبناء طائرات أو غواصات محليًا، بل لشرائها من أميركا.
أجريت محادثة مثيرة مع قائد صيني. – سابقاً – وعندما قلت له إن الصين تغمر السوق الأوروبية بإنتاجها الزائد من السيارات الكهربائية، أجاب: “السيد ميلونشون، هل تعتقد أن هناك عددًا كبيرًا من السيارات الكهربائية في العالم؟” بالطبع اضطررت للإجابة “لا”، ثم قال : “نحن لا نجبركم على شراء منتجاتنا؛ الأمر متروك لكم” في هاته اللحظة؛ كان شيوعي يشرح لي فوائد التجارة الحرة، لقد كان تذكيرًا بأن ما نعاينه بين الولايات المتحدة والصين هو منافسة بين شكلين مختلفين من التراكم الرأسمالي ، حتى لو كان من المختزل وصف النموذج الاقتصادي الصيني ببساطة بالرأسمالي. وعندما سألته عن التوازن العسكري، قال إن الصين في موقف مؤاتٍ، لأن “جبهتنا هي بحر الصين، بينما جبهة أميركا هي العالم كله”. فالمعركة مع الصين بدأت بالفعل، لكننا ما زلنا في مرحلة التحضير، و الآن نشهد سفناً حربية وأسلحة أميركية في كل أنحاء العالم، إذ تحتاج واشنطن إلى مراكمة هذه القوة قبل أي هجوم.
لذا ما زال أمامنا بضع سنوات كفرصة، تبقى فرنسا دولة تمتلك الموارد العسكرية والمادية للتدخل في ميزان القوى العالمي. وأنا أؤمن تمامًا أننا سيكون لدنا يومًا حكومة مستقلة\غيرخاضعة – insoumis تستطيع فرض السيادة على إنتاجنا المحلي وسياستنا الخارجية: حكومة تعترف بأن الصين – حتى لو كانت تهديدًا منتظِماً ومنظّماً للإمبراطورية – فهي ليست تهديدًا لنا. وهذا ما أحثّ إليه في حملتي.
أمّا المانيا؛ فقضية مختلفة ، إذ كما تعلم، في فرنسا نقول كثيرًا “أصدقاؤنا الألمان” ، حسنًا، الألمان ليسوا أصدقاء لأحد. لإنهم يسعون لمصالحهم؛ ينقضون الاتفاقات معنا طوال الوقت، والآن هم على استعداد لضخ 46 مليار دولار في اقتصاد الحرب لأنهم خسروا معركة صناعة السيارات منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، لكن حتى الألمان تلقوا درسًا قاسيًا من الولايات المتحدة، إذ اعتمدوا على غازبروم كمورد للطاقة والسيد شرودر عمل مع الشركة ليضمن صفقة جيدة مع الروس، إلا أنّ الأميركيين قالوا “توقفوا ” ثم دُمّرت نورد ستريم. وهذا يريك أنّ الإمبراطورية ستعاقب أيّ عاصٍ لأوامرها.
طارق علي: كيف ترى شكل العالم الذي نعيش فيه بنهاية القرن؟
جان-لوك ميلونشون: الشيء الوحيد الذي يمكننا الجزم به هو أن الحضارة الإنسانية ستجد طريقة لتتحد ضد التغير المناخي، أو ستنهار. سيظل هناك بشر ينجون من العواصف والجفاف والفيضانات. لكن التكنوقراط لن يتمكنوا من الحفاظ على اتساق المجتمع . ففي فرنسا لدينا بعض من أفضل التكنوقراط، إلا أنهم غبيون ليعتقدوا أن كل شيء سيبقى كما هو، إذ يخططون لبناء المزيد من محطات الطاقة النووية كجزء من استراتيجيتهم المناخية؛ لكن لا يمكن تشغيل محطات الطاقة النووية دون تبريدها، والتبريد يتطلب ماءً باردًا، وهو ما يصبح نادرًا باستمرار. وقد اضطررنا بالفعل لإغلاق محطات نووية بسبب الحرارة الشديدة ، وهذا مثال واحد فقط، لكن هناك عشرات من الأمثلة الأخرى حيث تُتخذ قرارات سياسية كما لو أن العالم سيبقى كما هو اليوم.
90% من التجارة العالمية اليوم تتم عبر البحر ، والتي هي ليست أسهل طريقة لنقل السلع، فهناك دراسات أظهرت أن النقل بالسكك الحديدية أكثر أمانًا وأسرع وغالبًا أرخص. ويمكن تخيل أن الصينيين، مع تدهور المناخ، سيبحثون عن مسارات بديلة لمنتجاتهم، طريق بكين-برلين سيكون أساسيًا في ربطهم بأوروبا؛ تذكر أن الصين اختارت ألمانيا كنقطة نهاية لأحد طرق الحرير. والطريق الآخر يمر عبر طهران ويدخل جنوب أوروبا، والصين ستكون لها ميزة عالمية في تطوير هذه القنوات التجارية الجديدة لأنها القوة المهيمنة من حيث الكفاءة التقنية: وهو أصل لا غنى عنه في الرأسمالية التقليدية.
أمّا الولايات المتحدة، على النقيض، لا تمتلك أي براعة تقنية، الأميركيون غير قادرين حتى على صيانة المحطة الفضائية الدولية، بينما يغير الصينيون الفريق في محطتهم كل ستة أشهر. الأميركيون بالكاد يستطيعون إرسال أي شيء إلى الفضاء، بينما أرسلت الصين مؤخرًا روبوتًا ليهبط على الجانب المظلم من القمر.
أمّا “الأوروبيون” وأضع المصطلح بين قوسين لأني لا أحبه؛ لا أعتبر نفسي غربيًا، ( فَهُم) مغرورون جدًا، متعجرفون، ولا يستطيعون الاعتراف بهذا التراجع. باختصار، إذا استمرت الرأسمالية مع الليبراليين الجدد في الهيمنة – في السلطة – فالبشرية ستضيع، لأن الرأسمالية نظام انتحاري يحقق أرباحًا من الكوارث التي يسببها. فكل نظام سابق اضطر للتوقف لحظة تسببه بفوضى كبيرة، لكن ليس هذا النظام ، فإذا أمطرت كثيرًا، يبيعك مظلة، إذا كان الجو حارًا، يبيعك آيس كريم.
وفي امتداد العقود القادمة، ستُظهر الأنظمة الجماعية أن الجماعية collectivist – أكثر إرضاءً للبشر من المنافسة الليبرالية، بل سأراهن – بما أعتقد – أنه بنهاية القرن، أو حتى قبل ذلك، لن تكون الولايات المتحدة الأميركية موجودة، لماذا؟ لأنها ليست أمة، بل بلد كان في حرب مع جميع جيرانه منذ لحظة تأسيسه. وصف “صامويل هنتنغتون” بنيتها بأنها غير مستقرة بشكل أساسي وتنبأ أن اللغة التي ستسود في النهاية هي الإسبانية. نسبة كبيرة من سكان الولايات المتحدة يتحدثون الإسبانية في المنزل، وهذا الجزء من السكان غالبًا كاثوليكي، مخالفين للبروتستانت «المتنويرين» الذين أسسوا البلاد.
إنّ هذه الديناميكيات اللغوية والثقافية مهمة جدًا، فالناس يهتمون بلغتهم الأم: التي كانت تغنّى لهم ليناموا، التي يعلنون فيها حبهم لشريكهم. في كاليفورنيا – وهي ولاية تم اقتلاعها من المكسيك، واقتصادها الرابع عالميًا من حيث الناتج المحلي – تتحدث الإسبانية في كل مكان أكثر من الإنجليزية. فلا عجب أن حملة استقلال كاليفورنيا تكتسب زخمًا، مع استفتاء قد يُعقد في العام القادم ولا أعرف إن كان سينجح، لكن من الملفت أن ولاية رئيسية في (ولايات) القوة العظمى تفكر بالانفصال. سنرى المزيد من هذا، والأيديولوجيا المهيمنة – أي «كل رجل لنفسه» – لن تبقي البلاد موحدة.
طارق علي: كتبت في كتابك الأخير أن الفرنسيين يمكن أن ينفجروا بلا سابق إنذار مثل البركان، إن هناك شيئًا يغلي دائمًا تحت سطح المجتمع الفرنسي. وآخر من سمعته يقول شيئًا مشابهًا كان “نيكولا ساركوزي” عندما كان رئيسًا، قال له صحفي متملق: «أنت محبوب جدًا، سيد ساركوزي، تقيماتك عالية، زوجتك جميلة»، فرد ساركوزي، لدهشتي: «الذين يسألون مثل هذه الأسئلة لا يفهمون فرنسا، لأن نفس الناس الذين يمدحونك اليوم يمكن أن يقتحموا غرفتك ويقتلوك غدًا».
جان-لوك ميلونشون: هذا الجانب من المجتمع الفرنسي يأتي أولًا من تاريخنا. إمبراطوريتان وثلاثة ملوك في أقل من قرن. خمس جمهوريات في قرنين وبالطبع ثلاث ثورات ؛ أنتجت ثقافة جماعية من رفض الخضوع – insoumission ، إذ اخترت هذه الكلمة لحركتنا لأنها تعبر تمامًا عن الروح التي نريد تجسيدها: غريزة ثوريّة، قدرة دائمة على رفض النظام المفروض علينا.
إذا أردنا تطوير استراتيجية ثورية، يجب أن نبني على هذه الأسس الثقافية، لكن هذا ليس كل شيء، فهناك أيضًا التغيرات الديموغرافية، مزج السكان المختلفين. إذ يتطلب الخنوع للنظام القائم، أن تكون منغمساً فيه إلى حد ما، فالخادم يجب أن يُعلَّم أن يقبل مكانه كخادم، لأن والده كان كذلك، وجده كان كذلك.
لكن إذا وصلت إلى فرنسا للتو، إذا كنت قد خاطرت بحياتك للوصول هنا وأنت ممتليء بالحماس للحياة، فأنت تريد النجاح بدلاً من الخنوع ، تريد أن ينجح أطفالك أيضًا، أن يحصلوا على تعليم جيد. وهذا يخلق ديناميكية داخلية في هذه السكان لا يمكن للطبقات المهيمنة، بغرورها المعتاد، أن تفهمها.
لقد انتُخب ميتران في مايو 1981 لأن الحزب الشيوعي نظم الطبقة العاملة التقليدية والحزب الاشتراكي نظم الطبقات الاجتماعية الصاعدة. أمّا اليوم لم تعد هناك طبقات اجتماعية صاعدة في فرنسا سوى في مجتمعات المهاجرين، ونحن في “فرنسا غير-الخاضعة – La France insoumise” لم نؤمن أبدًا أن الفرنسيين أصبحوا عنصريين، مغلقين، أنانيين، نعم، هناك بعض من ذلك. لكن هناك أيضًا قوى مناهضة لهذا وهي كثيرة وقوية. لهذا نركز على أحياء الطبقة العاملة – بما فيها المهاجرون – والشباب، لأن هذين القطاعين لديهما مصلحة في انفتاح المجتمع بدلاً من إنغلاقه.
فنحن لسنا شعبًا مثل الإنغلو–ساكسون، الذين يهيمن العمل على مناط تفكيريهم، فهذه هي الدولة الوحيدة حيث، عندما تريد انتقاد شخص، تستخدم تعبيرًا شعبيًا مثل heureusement que tout le monde ne fait pas comme vous – «من حسن طالعنا أن الجميع لا يفعل مثلك» أي أن الخير هو ما يفعله الجميع. هناك مساواة تلقائية في فرنسا تتسرب إلى لغتنا اليومية.
فهذه أمة بُنيت عبر الثورات، منظمة حول الدولة والخدمات الاجتماعية، كل إنجازاتنا – التقنية، المادية، الفكرية – تأتي من قوة الدولة، وبالتالي، بتدمير الدولة، فالنيوليبراليّة تدّمر الأمة الفرنسية نفسها.
أتريد قائمة بالدمار؟ مدرسة واحدة تُغلق يوميًا؛ غرفة ولادة واحدة كل ربع سنة؛ 9,000 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية تم إلغاؤها؛ عشر مصافٍ اختفت. إنّ حرب النخبة على المجتمع تعني تدمير الملكية العامة لصالح الملكية الخاصة.
ونتيجة لهذا الإفقار للدولة، انهار الاستثمار الخاص؛ فكل الأموال تدفقت إلى القطاع المالي، إنّ الأغنياء لا يخلقون وظائف ، ولا يشترون آلات لصنع الأشياء، بل يحققون أرباحًا دون فعل شيء، فقط من خلال التلاعب بآليّة المضاربة الماليّة.
إنّ استراتيجيتنا السياسية تستند إلى دمج هذا التشخيص المادي مع التحليل الثقافي. اجتماعيًا وثقافيًا، هناك دول أخرى يمكن أن يقول فيها الناس «نعم، هذا طبيعي؛ إنه مالهم، يمكنهم فعل ما يريدون به»،
لكن فرنسا مختلفة،هنا يجب أن تبرر ما تفعله، أنت مسؤول أمام الجماعة، هذا ليس نوعًا من القومية المجردة، وليس أنني أعتقد أن الفرنسيين أفضل من غيرهم؛ إذ يمكن دفعهم أيضًا للتنافس فيما بينهم.
لكن هذا الدافع الجماعي العميق يجعلني متفائلًا عندما أرى الفاشيين يحاولون فرض نظرتهم القاتمة للوجود. ليس لديهم طموحات للمجتمع، لا مقترحات للمستقبل ، إنما كل ما يعرفونه هو أنهم لا يحبون العرب أو السود.
من السهل جدًا استفزاز الفاشيين؛ تلوّح بالعلم الأحمر فيأتون جميعًا ، لقد لاحظت مؤخرًا أن اللغة الفرنسية لا تنتمي للفرنسيين بل لمن يتحدثون بها وهذا أثار جدلاً هائلاً ؛ «الفرنسية للفرنسيين!» صرخوا.
حسنًا، هناك 29 دولة تُعد الفرنسية لغتها الرسمية، و بالاعتراف بذلك يمكننا البدء في مناقشة اللغة كمشترك عام، وعندما تخبر فاشيًا أن هناك 100 مليون كونغولي يتحدثون الفرنسية، يغشى عليه. وعندما تخبره أن السنغاليين، في المتوسط، أكثر تعليمًا من الفرنسيين، لا يطيق ذلك.
والأسوأ في نظرهم: المسلمون من شمال أفريقيا يؤدون أفضل في المدارس، أعتقد أن مواجهة الفاشية تتطلب إشعال حرب ثقافية مفتوحة في الوقت ذاته الذي نخوض فيه معركة اقتصادية. يجب ألا نخاف. من الواضح أن الأمر قد يكون مزعجًا، لكن هكذا يفهم الناس الواقع الإنساني على أعمق مستوياته، فقد نكون عمالًا، لكننا أيضًا عشاق، شعراء، موسيقيين – وهذه الهويات لها مكانها في السياسة، لا أدري إن كان هذا يبدو لك هذا القول غارقاً في الرومانسيّة