إعادة تشكيل الهيمنة من فوكوياما إلى ترامب

يريد كل من فوكوياما و ترامب أن تستمر الولايات المتحدة في الفوز. لكن فوكوياما يُؤسس لـ" نضال عالمي" لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، بينما يُقلل من تكاليف مثل هذه الالتزامات. ويُجسد " العولمة " - المذومومة من قبل "ماغا- MAGA"

4 عدد المطالعات
84 دقائق من القراءة
إعادة تشكيل الهيمنة من فوكوياما إلى ترامب -أطراس
إعادة تشكيل الهيمنة من فوكوياما إلى ترامب -أطراس

( نُشر هذا المقال بعنوان : Reconfiguring Hegemony للكاتب : Zhang Yongle في New Left Review وهذه ترجمة مطولّة منه ©)

إعادة تشكيل الهيمنة من فوكوياما إلى ترامب

في اليوم المئة بعد أداء ترامب اليمين الدستورية لولايته الثانية، نشر الفيلسوف السياسي فرانسيس فوكوياما – Francis Fukuyama نقدًا لاذعًا لحكمه، إذ كان ” تجاهله التام للقانون والأعراف ” بمثابة الخيط الوحيد الذي يُتتبع في سياسات ترامب جميعها – ” تعريفات جمركية كبيرة ومستحيلة التوقع “، ” فصل آلاف الموظفين الفيدراليين بطريقة غير قانونية “، ” اختطاف أشخاص لهم حقوق قانونية من الشوارع وترحيلهم إلى سجون أجنبية “، ” مهاجمة الجامعات ومؤسسات البحث الأكاديمي كجزار” ،إنّ تجاهل ترامب للشرعية ، وعطشه للانتقام ، يعني أن ” الأسوأ آتٍ “، وبالنسبة لفوكوياما، كان ترامب يحاول توطيد السلطة التنفيذية من خلال تقويض استقلال القضاء، تقييد حرية الصحافة، وقمع الحريات المدنية – الركائز الأساسية للديمقراطية الليبرالية التي ظهرت منتصرة في التسعينيات، رغم أنها تواجه التحديات الآن .

وهذا على النقيض من الرواية الانتصارية التي روجتها إدارة ترامب، إذ كانت الكلمة الأساسية فيها هي ” الفوز”، فقط انظر إلى هذه العناوين من موقع البيت الأبيض: ” انتصارات صباح الاثنين: أطلقوا عليها اسم  ” تأثير ترامب”  “50 فوزًا في 50 يومًا: الرئيس ترامب يفي بوعوده للأمريكيين” ، ” الأسبوع 15 من الانتصارات: اليوم المئة للرئيس ترامب يتميز بالنجاح”، “50 فوزًا في مشروع القانون الكبير الجميل” ; “الرئيس ترامب : ‘جنودنا يقاتلون، يقاتلون، يقاتلون، ويفوزون، يفوزون، يفوزون'”.

إنّ كلمة ” الفوز” هي محور استراتيجية ترامب الخطابية، التي تعيد تأطير كل عائق سياسي على أنه نجاح، لقد أثارت هذه العناوين موجة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، حيث يُشار إلى ترامب بلقبين: أحدهما هو “تشوان جي-ان-غو” (川建国)، والذي يعني “ترامب باني الأمة”، لكن الأمة التي يبنيها دون قصد هي الصين، وليست الولايات المتحدة. واللقب الآخر هو “دونغ وانغ” (懂王)، أو “الملك “العالم بكل شيء – Know-It-All”، إنّ ترامب ليكتسب سمعة جديدة، بناءً على النكات حول علمه\تخصصه بـ”علم الفوز – winnism” .

لكن ترامب ليس الوحيد الذي يتقن هذا الفن، ففي ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير – The End of History and the Last Man ” ، احتفل فوكوياما بالديمقراطية الليبرالية كأنها ” المتنافس الوحيد” المتبقي في الحلبة، بعد انهيار الأيديولوجيات الأخرى. ورغم أن نبرته كانت دائمًا باردة ومنضبطة، إلا أن النجاح الساحق\بالضربة القاضيّة كان هو النموذج الذي يتبناه فوكوياما أيضًا. إنّ مقارباتهما – ترامب وفوكوياما – تُشكل تجليات جدلية لخطاب الهيمنة الأمريكية، التي قد تبدو متناقضة في الظاهر، لكنها تخدم في الجوهر الأهداف ذاتها.

يُعد ادعاء الفوز في أحد جوانبه، شرطًا أصيلاً للهيمنة، كما عرّفها “غرامشي” وتتضمن طريقة الحكم هذه كلًا من الإكراه والموافقة، وقد ورد في نقد ذائع للعلاقة بين ترامب وفوكوياما فحواه أن علاقتهما تشبه علاقة – في النظام المالي – احتياطي البنوك (القوة الصلبة) والعملة الورقية (الأفكار المتداولة) ، هذا ويثيرسؤالًا حول كيفية صرف\تحصيل – cashed out العطاء بالنسبة للأنصار، بناءً على هذا الإكراه المقنّع ، هنا يبرز خطاب النصر كحل صريح.

أمّاعلى الساحة الدولية، يميل مهندسو سيطرة الهيمنة إلى الاعتماد على سرديّة مزدوجة، فأولًا؛ تفترض اتجاهًا غائياً – teleological للتاريخ، حيث النموذج الاجتماعي للقوة الرائدة\الكبرى ليس فقط الخيار الأفضل المتاح، بل من المحتّم أن ينتصر. وثانيًا؛ وبالتوازي مع السرديّة الأولى، أن الانحياز إلى المهيمن هو أفضل طريقة لتكريس النجاح، ومحاولات تشكيل تحالفات بديلة هي محكومة بالفشل.

إذن، حكم الهيمنة حاجة متأصلة لخطابات الفائزين، لكن الرواية المصممة لقوة واحدة قد لا تكون مناسبة لأخرى، وحتى داخل نفس نسق الهيمنة، قد تبطل التحولات التاريخيّة النماذج التي كانت فعالة في السابق. وكأحد أحذق الفاحصين المؤيدين للديمقراطية الليبرالية، يُظهر فوكوياما، قلقًا عميقًا بشأن آفاق علامته – brand الأيديولوجية، فصدامه مع ترامب يثير مسألتين للتمحيص، الأولى؛ إلى أي مدى يُعد انحدار\انكفاء نموذج فوكوياما عرضيًا ؟ وهل يمكن أن يستعيد موقعه المسيطر؟ الثانية، ما المشكلات الجديدة التي يطرحها خطاب ترامب الانتصاري\الفوزوي؟ وما العواقب المنهجيّة\المؤسسيّة التي يُبطنها ذلك الخطاب؟ سأبدأ، عبر تمحيص تشخيص فوكوياما لمعضلات الديمقراطية الليبرالية ، ومعنى وجود ترامب كحل لها.

استدلالات الفوز في الفلسفة السياسية

قد يعود اشتباك فوكوياما لأول مرة مع مسألة ما الذي قد يمثله دونالد ترامب؟ إلى عام 1992، فقد تم ذكر الرئيس الأمريكي الحالي مرتين في “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” ، أثناء عرض فوكوياما فلسفته للتاريخ – لقد تطوّر الكتاب من مقال عام 1989 بعنوان “نهاية التاريخ؟” الذي نُشر في دوريّة National Interest- وهنا عرض فوكوياما الفكرة الهيغلية عن السعي لنيل الاعتراف – quest for recognition كمحرك للتاريخ، وفقاً لمنظور ” ألكسندر كوجيف – Alexandre Kojève” الذي دَرَسه تحت إشراف ” آلان بلوم – Allan ” Bloom في كورنيل.
فقد كتب أنّ القرن العشرين ينتهي بـ”النصر الصريح للليبرالية الاقتصادية والسياسية”، و ” انتصار الغرب، لفكرة الغرب ” كان جليّاً في استنفاد البدائل المنهجيّة والقابلة للتطبيق، فالعالم يشهد “لحظة الحسم لتطور البشرية الأيديولوجي، وعولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للحكم عند الجنس البشري”.
افترض فوكوياما على خطى “كوجيف” ، أن مأسسة الديمقراطية الليبرالية للحقوق المشتركة من خلال التساوي في الحقوق والواجبات والمواطنة، ستشكل الحل النهائي للصراع لغاية الاعتراف – struggle for recognition، مما يقود إلى “نهاية التاريخ”، من الأهمية بمكان، أن هذه “النهاية” لا تعني الانتهاء الزمني بل انتفاء “الهدف” من الصراعات لغاية الاعتراف في التاريخ.

سبقت هذه التعقيبات\المداخلات سلسلة من الاعتلالات الجيوسياسية التي بدأت في خريف 1989 – سقوط جدار برلين، و” الثورة المخملية” في تشيكوسلوفاكيا، وتفكك الاتحاد السوفييتي – والتي لم تكن تتوقعها حتى الدوائر الاستخباراتية الأمريكية. إذ بدا أن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة قد أكد تشخيص فوكوياما في “نهاية التاريخ؟ ” مما رفعه إلى واجهة المشهد الفكري.

بعد ثلاث سنوات، في نسخة الكتاب المعدلة بشكل كبير، بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” أعاد فوكوياما صياغة حجة “الصراع من أجل الاعتراف” بتتبعها إلى علم النفس الاجتماعي لـ “الجمهورية” لأفلاطون وفرضيات سقراط للبنيّة الثلاثيّة للنفس\الروح ؛ بين “العقل” و”الشهوة” كانت توجد خصيصة الـ” ثيموس ” ، التي ترجمها فوكوياما بـ”الروح” أو ” القلب”. الثيموس، في هذا القراءة، يعبر عن الحاجة لإضفاء قيمة على الأشياء، بدءًا من الذات، وبالتالي الصراع للاعتراف بهذه القيمة.

لكن فوكوياما أشار إلى أن مأسسة الديمقراطية الليبرالية قد تخلق معضلات جديدة أمام الرغبة في الاعتراف، فقد تنشأ هذه المعضلات من كون الدوافع ” الإيسوثيميا – isothymia” ( يشير هذه المفهوم – من الفلسفة الأغريقيّة – إلى الرغبة في التساوي من حيت الاعتراف والتقدير الفعليين\المتحققين مع الآخرين) الراديكالية للتساوي الحقيقي مع الآخرين ، غير راضية عن تحقق عدم المساواة في تقسيم العمل في الرأسماليّة، كذلك أيضًا من التفوق المفرط الذي تؤدي إليه الـ “الميغالوثيميا – megalothymia” ( والذي يشير إلى الرغبة لا بالاعتراف وحسب بل بالاعتراف بالتفوق على الآخرين)، ومن هنا جاء نقد فوكوياما المُستبصر لترامب . إذ ذكر في “نهاية التاريخ” أن المنافسة على الثروة والشهرة قد توفر منفذًا مؤثراً\فاعلاً للشخصيات الـ ” الميغالوثيميّة” داخل الديمقراطيات الليبرالية.
لكنها قد تكون هدفًا لحنق دعاة المساواة : ” الرغبة بالاعتراف المتساوي – الإيسوثيميا – لا تتضاءل بالضرورة مع تحقيق مساواة التحصيل الحاصل-de facto من وفرة مادية، بل يزداد حافز تلك الرغبة بوجودها (أي الوفرة) “، وكما رأى توكفيل-Tocqueville، قد يكون حب المساواة شغفًا أعمق وأكثر دوامًا من حب الحرية. فعلى سبيل المثال، كان “العرض المتغطرس” لـ “الميغالوثيميا الجامحة” لدى تاجر العقارات ترامب، ، مرئيًا بشكل واسع، وكان قادرًا على إثارة حنق “إيسوثيمي” متساوٍ بين الجماهير.

كما تناول فوكوياما أيضًا حجة نيتشه أن مطلب الاعتراف الشامل نشأ من الضعفاء والمتوسطين وأن نهاية التاريخ، مع انتصار الديمقراطية الليبرالية، ستكون أيضًا عصر “الرجال الأخيرين”، الذين يضعون سلامتهم وراحتهم في المقام الأول ولن يسعوا لقمم جديدة، واقتبس فوكوياما من “هكذا تكلم زرادشت” : “الجميع يسعى للشيء ذاته، الجميع متماثل\متشابه؛ ومن يشعر بالاختلاف فليذهب طوعًا إلى دار المجانين” مستستلماً لقسوة النقد.
وبجانب خطر أن يصبح الرجال الأخيرين، خاليين من طاقة الثيموس، أشار إلى وجود خطر معاكس. وهنا يظهر ترامب مجددًا في الفصل الأخير من “نهاية التاريخ”، حيث جادل فوكوياما أن “غياب المنافذ المنتظمة والبناءة للميغالوثيميا” في ظل هيمنة الديمقراطية الليبرالية قد يؤدي إلى “عودتها لاحقًا في شكل متطرف ومرضي”.
فقد يصبح المرء “مُطوّرًا مثل دونالد ترامب”، أو “سياسيًا مثل جورج بوش”، لكن بالرغم من الاعتراف الذي حققوه، فإن أفق الإحتمالات الذي حددتها حياتهم، لن يكون مُرضيًا في النهاية؛ ولن تترك “مخزونات الإنسانية من المثالية” دون أن تمس. إنّ ترامب يمثّل فشل “الميغالوثيميا” في السياق الديمقراطي الليبرالي، وبالتالي يمثّل خطراً نموذجياَ على النظام.

لقد شكّل تحليل فوكوياما للشغف البشري النواة النظرية لخطابه الانتصاري في ” نهاية التاريخ ” إذ جادل بأن النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تمثله الولايات المتحدة كان الأقرب لتحقيق معايير ” أفلاطون” لنظام يرضي جميع أجزاء النفس الثلاث – العقل، الشهوة والثيموس تحت إشراف العقل – وبالتالي كان أكثر الأنواع السياسية شرعية. وأصبح “نهاية التاريخ” أكثر الكتب مبيعًا عالميًا، لكن تأثيره كان متناقضًا؛ إذ لم يخفف شرح فوكوياما المضني للتقليد الفلسفي (الفلسفة الغربيّة) – الذي كان أمثال: كانط، وهيغل، وكوجيف ، يؤلفون ضمن نسقه – من رد الفعل الفلسفي لدى النخب الغربية، التي جرت على رفض “نهاية التاريخ” بوصفه هراءً صريحاً.
في الوقت عينه، لعبت خرائط فوكوياما المفاهميّة المعرفية دوراً في تشكيل فهم\منظور – انحاز له المثقفون بقوة – للعالم وضمن هذا المنظور، كان العالم منقسمًا إلى الغرب والباقي دون الغرب؛ فهناك منطقة “متنوّرة” من الدول التي حققت بالفعل الديمقراطية الليبرالية، أو التي كانت تكافح على الأقل للوصول إليها، ومناطق أخرى بقيت عالقة في التاريخ، ترفض التنوير عنادًا، أو ربما عجزًا عنه. لقد خدم ” نهاية التاريخ” ضمن هذا المنظور الأوسع دعامة أيديولوجيّة لسرديّة النصر التي مهدت للهيمنة الأمريكية. فبينما قد تكون الأنظمة الديمقراطية الليبرالية القائمة غير مثالية، فاحتمال تطوير بنيّات سياسة بديلة من قبل الدول غير الغربية مستحيلٌ.

قلاع ” علم الفوز – Winnism ” التجريبية

دفع الانتشار الناجح “نهاية التاريخ” فوكوياما إلى مستويات عالية في الحياة الفكرية شبه الرسمية الأمريكية، مع مناصب مرموقة في مؤسسات أكاديمية قمة (George Mason University و Johns Hopkins و سانفورد) بالإضافة إلى ” راند – rand” ووزارة الخارجية الأمريكية والبنك الدولي، ولعب دوراً في قيادة سلسلة من المجلات الفكرية عالية القيمة، مثل : The American Interest، و American Purpose و Persuasion. وتضمنت مشاركاته في مناظرات السياسة الخارجية الأمريكية بعض التحولات الهامة ودعمت فلسفته السياسية برؤى تجريبية\امبريقيّة، فكان فوكوياما مناصرًا صقوريّاً لتغيير النظام في العراق منذ 1997، لكنه نأى بذاته عن نتائجها لاحقاً . وقدم الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستان والعراق مختبرات حية لتجارب بناء الدولة وكان فوكوياما حريصًا على استخلاص دروسها. وقد تبلورت تلك الرؤى والتجارب والدروس في رسالته عام 2004 “بناء الدولة – State-Building”، التي جادلت بأن نهاية الحرب الباردة تركت “شريطًا من الدول الضعيفة والفاشلة”، يمتد من البلقان عبر القوقاز إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وفي حين أنّ “هنتنغتون” قد نَظّر عام 1968 في ” النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة” لوصاية الولايات المتحدة على دول أمريكا اللاتينية، وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، لتكون الوصايّة داعمة لـ “التحديث الاستبدادي – authoritarian modernization” أو في الواقع، للديكتاتورية العسكرية حسب الحاجة. سعى فوكوياما لتحديث\تطوير نصيحة\تعاليم معلمه في للقرن الحادي والعشرين؛ فإن كان هنتنغتون قد ميّز الحكومة في “الشكل” و”الدرجة” ، فإن فوكوياما قد أبرز التغير في “نطاق نشاط الدولة” و “قوة سلطة الدولة”، فالمسألة، بحسب حجاجه، تتمثّل في إذا ما كانت المؤسسات والقيم الغربية الليبرالية عالمية في الواقع، أم – كما يدعي هنتنغتون في “صراع الحضارات ” – مجرد نتاج للتقاليد الثقافيّة لشمال أوروبا. وهذا التحول المعرفي – الذي أخذ الدولة كموضوع مباشر للدراسة – أشار إلى مرحلة جديدة في تطور تفكير فوكوياما؛ من خطاب النصر ( النسخة الأولى) 1.0 إلى 2.0 (النسخة الثانيّة)، كما يمكننا القول.

توج هذا النهج في العقد 2010 بنشر مجلدين ضخمين: “أصول النظام السياسي” و” النظام السياسي والتدهور السياسي”، مدينين لاستراتيجي الإمبراطورية “هنتنغتون” بدلًا من مُنظّر القارة “بلوم” ( اشارة إلى Allan Bloom ) فإذا كان “نهاية التاريخ” قد استند إلى استنتاجات فلسفية سياسية، فإن ثنائية ؛ ” النظام السياسي” تمثل انتقالًا إلى التاريخ المقارن وعلم الاجتماع السياسي، معتمدًا على أساليب أكثر تجريبية. وفكريًا، كان النهج أخشن: تم استنتاج الطبيعة البشرية الآن من سلوك الشمبانزي، مع قابليتها الاجتماعية القائمة على القرابة وقدرتها على العنف داخل النوع، بدلًا من السعي الهيغلي للاعتراف؛ وتم تشبيه تطور الأشكال السياسية بالتطور الدارويني، بدلًا من جدلية السيد والعبد. (…) في الوقت الحالي، ” أكان ذلك للأسوأ أو للأفضل، لا يوجد بديل عن دولة حديثة غير-شخصية impersonal كضامن للنظام والأمان، وكمصدر للخدمات العامة الضرورية”.
خلص فوكوياما إلى أنّه لا يمكن وصف الديمقراطية الليبرالية بأنها نظام سياسي عالمي ، بما أنها نشأت فقط في المئتي سنة الماضية. لكنها لم تكن مجرد انعكاس لتفضيلات ثقافية غربية. فمنذ الثورة الصناعية، أصبح التوازن بين الأعمدة الثلاث التي تمثلها الديمقراطية الليبرالية – كضرورات بنيويّة – شرطًا وظيفيًا رئيساً لدعم التوسع الاقتصادي وكفاءة السوق ، وهذا كان خطاب النصر النسخة : 2.0 ؛ مؤهل – qualified وتجريبي – empirical، و لا يزال ” يفوز “. (…)

آفاق علم الفوز

بشكل أساسي، يريد كل من فوكوياما و ترامب أن تستمر الولايات المتحدة في الفوز. لكن فوكوياما يُؤسس لـ” نضال عالمي” لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، بينما يُقلل من تكاليف مثل هذه الالتزامات. ويُجسد ” العولمة ” – المذومومة من قبل “ماغا- MAGA” ( طائفة ترامب : Make America Great Again ) – و تتمثّل تلك التكاليف في تقليل إنفاق الموارد الأمريكية على برامج بناء الدولة لصالح تعزيز نشر الديمقراطية الليبرالية والحفاظ على النظام الذي تقوده الولايات المتحدة؛ بالضغط على الدول التي لا تزال ” عالقة في التاريخ ” للتحرك نحو نهايته المرسومة مسبّقاً، لكن هذا الالتزام بالهيمنة كان يتطلب أسسًا مادية هائلة ، وهذه الآن بادئة بالتآكل.

ويوفر حجم الدين السيادي الأمريكي مؤشرًا على الأزمة، فبحلول 2024، وصل الدين الفيدرالي إلى 34.5 تريليون دولار، أو 125٪ من الناتج المحلي الإجمالي، و مدفوعات الفائدة عليه 1 تريليون دولار سنويًا، متجاوزة الإنفاق الدفاعي التقديري ومقتربة من مصروفات الضمان الاجتماعي. وتخلق أسعار الفائدة المرتفعة باستمرار تأثير كرة ثلج الدين وتقلل من القدرات على الاستجابة للأزمات(…).
ورغم أن أرقام الناتج المحلي الإجمالي الاسمي الأمريكية تواصل الارتفاع، فإن اقتصادها الحقيقي يشمل قطاع تصنيع أعجف، وبنية تحتية متداعية وقدرة استهلاكية متناقصة.
وتواجه الولايات المتحدة منافسة متزايدة مع تحرك الدول النامية صعودًا في سلسلة القيمة، مما يتحدى القطاعات بارزة الأهميّة، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت نفسه، يُعد الانحدار العام للصناعة الثقيلة ذا تداعيات خطرة على القدرة العسكرية الأمريكية، التي تعتمد في النهاية على صناعة السفن الأمريكية لتحديث أسطول البحرية الأمريكية وعلى قدرة إنتاج بوينغ للقوات الجوية الأمريكية.

 إنّ سياسات ترامب  – مهما كانت فجة – تستجيب لمشكلة حقيقية هي تمدد الهيمنة الزائد، إذ تبدو هجمات ترامب على ” العولمة ” مبالغًا فيها، لكنها قد تعكس حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك القدرة الاقتصادية لدعم نظام عالمي للهيمنة بأي ثمن.

وعند مرحلة ما، ستكون درجة ما من التراجع الاستراتيجي حتمية، باختيار الولايات المتحدة للعمل في مناطق معينة، وفي قضايا معينة، والامتناع عن ذلك العمل في مناطق أخرى (…) لقد تم السخرية على نطاق واسع من تغريدات ترامب حول ضم “غرينلاند” ناهيك عن ” كندا ” و” قناة بنما ” ، ولكن قد تكون هناك حسابات منطقيّة للمصلحة الوطنية وراء “مذهب مونرو الجديد”؛ المبني على ترسيخ مكانة أمريكا كقوة هيمنة على مُحيطاتها الثلاث المجاورة، مما يمهد الطريق لإعادة تشكيل منهج هيمنة أمريكا.

وتشكل مهمة ترامب بإعادة إحياء الصناعة تحديًا هائلًا، ويبقى الطريق نحوها – استراتيجية مبنية على التعريفات الجمركية لإرغام تقليل عجز الميزان التجاري وإعادة التصنيع – ملطخًا بالتناقضات النظامية. إذ يستند إلى ثلاث افتراضات: أولًا، أن الدول المصدرة لا يمكنها التغلب على اعتمادها على الأسواق الأمريكية؛ ثانيًا، أن المستهلكين الأمريكيين سيتسامحون مع ضغط التضخم؛ ثالثًا، أن القدرات الداخلية – وليس أقلها: المهندسون المهرة – ستكون قادرة على دعم نهوض التصنيع وإعادة تكامل السلاسل الإمدادية.
أظهر رفض الصين الرضوخ لمطالب ترامب الجمركيّة عدم التناظر في العلاقة، فالاعتماد الأمريكي على السلع الصينية يتجاوز الاعتماد الصيني على الأسواق الأمريكية. (…)
وعلى أي حال، رغم حميّة الميول الترامبية، فلا يوجد بديل حقيقي عن ليبرالية السوق المطروحة. إذ يبدأ مشروع القانون ” الكبير الجميل” (وفقاً لوصف ترامب ذاته ) بتخفيضات ضريبية للأغنياء، فليس ترامب راغبًا ولا قادرًا على تحدي آليات توزيع الثروة في الولايات المتحدة.

إنّ امتعاض وسخط فوكوياما من توطيد ترامب لسلطته من خلال تقويض أعراف ” سيادة القانون ” الأساسية – استقلال القضاء، وحرية الصحافة، والحريات المدنية – لا يعالج الإشكالية العميقة التي تمثلها الترامبية لنموذجه. إذ نجح ترامب في إحداث اضطراب في المؤسسات السياسية الأمريكية الصارمة، وتعزيز السلطة التنفيذية وكسر الجمود الذي أصاب إدارات كلينتون، وأوباما، وبوش، وبايدن، ولكنه فعل ذلك من خلال تعميق ميول النظام البطريركية، من خلال سلوكه السياسي غير التقليدي واحتكار عائلته الفج. علاوة على ذلك، بينما أضعف – بل هاجم – أعراف الحكم الليبرالي-الديمقراطي، العمود الثاني لـ ” فوكوياما” في الداخل والخارج، كان قد استجاب على نحو ما للضغط الشعبي – وهو العمود الثالث- أكثر من الإدارات الديمقراطية الحديثة.

إذ نجح ترامب حتى الآن إلى حد كبير في محاذاة السياسة الخارجية الأمريكية مع تصورات أولئك الذين يشعرون بأنهم الخاسرون من العولمة. من خلال إعادة تعريف السيادة وفقاً للمصالح الأمريكية، وأعاد تصنيف أصول الإمبراطورية الأمريكية السابقة مثل الـ USAID كأعباء فائضة، إذ أمست المؤسسات الدولية الليبرالية-الديمقراطية، التي بُنيت عبر عقود، أعباء يمكن التخلص منها، ما لم تقدم فوائد ملموسة. وتم إعادة تأطير التنازلات الاقتصادية المكتسبة من الحلفاء التقليديين – كالإكراه على كتابة خطط إنفاقهم الوطنيّةظالمحليّة domestic – كـ” انتصارات “.
تعتمد ” إعادة التورّث – repatrimonialization ” – باستخدام مصطلح فوكوياما – لسياسة ترامب الخارجية، على المبالغة في تعظيم الامتياز الأمريكي على الدول الأخرى، من خلال دبلوماسية عامة لفرد واحد one-man، تُجرى بلغة شخصية للغاية، عبر محادثات وجهاً لوجه أو تفريغات وسائل التواصل الاجتماعي.

هل سيطغى سرد ترامب الانتصاري على الليبرالية “الفوكويامية”، أو من الأرجح أن الأخيرة ستمر ببعض الانتعاش؟ الحقيقة غير المصرح بها في نموذج “نهاية التاريخ” كانت أن انتصار الديمقراطية الليبرالية اعتمد على القوة الصلبة للولايات المتحدة- hard power ( وهو مصطلح متدوال يشير إلى القوة العسكريّة أو ما يناظرها من قوة ظاهرة التأثير )- كقوة حاسمة لفرض نصرها في الحرب الباردة – بقدر اعتمادها على جاذبيتها الأيديولوجية.

وبينما تبقى غائيّة فوكوياما مرتكزة على الهيمنة العالمية الأمريكية، إلا أنّ ثمن هندستها للهيمنة أمسى أمراً غير قابل للاستمرار، مما يفرض تحولاً هيكليّاً ، مع ترامب كمُوكّل مؤقت. وإذا نجح ترامب في تجديد الأسس الاقتصادية للهيمنة الأمريكية مع الحفاظ على مؤسساتها، فقد تكتسب فكرة “نهاية التاريخ” الليبرالية-الرأسمالية الأنجلوسكسونية حياة جديدة.

وعلى نقيض ذلك، قد يطرح الفشل سؤالًا حول ما إذا كانت الهيمنة الأمريكية قادرة على استمرار ” فوزها الرابح ” تحت أي من النموذجين، برغم أنه يواجه تحديات منهجيّة – systemic حقيقية ، وإن كانت استجابات ترامب متهورة ومتسرعة، مما يشكل مقامرة سياسية عالية المخاطر.

إنّ ” إعادة التورّث – repatrimonialization ” ( مصطلح فوكوياما) يوحي بالعجز عن التنبؤ بدلًا من الحسم القاطع، ورسالتها الرئيسة هي أن على الدول الاعتماد على أنفسها. ومن هذا المعنى، قد تنتهي مغامرة ترامب بتسريع التعددية القطبيّة، وإن حصل ذلك، يمكن أن نتوقع تكاثر روايات ” انتصارية ” تحت رايات مختلفة، بإلهام ترامب دولاً أخرى لتطوير طبعات- brands من “فوزها” الخاص.

المصدرNew Left Review
شارك الموضوع، أظهر دعمك